هذا حوار قديم مع سيدة تجاوزت الخمسين إلا قليلا، كنت قد قابلتها في غرفة الانتظار وانسابت بيننا أحاديث الغرباء المنفلتة من كل قيد حتى تطرقنا إلى موضوع الزواج وتحدياته بين الماضي والحاضر، وشعرت بها وهي تتكلم وتتنهد بحسرة مكتومة!، فتجرأت وسألتها عن زواجها وهل هي سعيدة بعد عشرة السنين الطويلة؟ لم أقصد التطفل ولكني كنت أحاول الاستفادة من عصارة تجربتها الحياتية! ابتسمت السيدة في خفر وقالت: المهم أن أولادي سعداء! كلماتها أثارت فضولي فقلت باندفاع: أنت أمهم مصدر سعادتهم ويجب أن تكوني سعيدة ليشبوا هم سعداء! ابتسمت ابتسامة غامضة واستطردت هناك أمور لا تدركيها يا ابنتي حتى يصيرك الله أما؟ فسألتها متعجبة: إن كنت غير سعيدة بهذه الزيجة فلماذا استمرت سنوات وسنوات مديدة؟ كان جوابها المفاجئ بالنسبة لي، حينها، أربعة أنفس أهم من نفس واحدة!! ثم استرسلت في حديثها إلى أن قالت بتلقائية وتجرد مشاعري غريب: أتعلمين أني أتضور وأتلوى من الجوع لحضن رجل! حتى أني في أحيان كثيرة أجلس وحدي وأحلم بأن أيادي رجل يحبني تطوقني بدفء حميمي كبير! كم أتمنى أن أختبئ في حضن رجل نبيل وأبكي تحت دفء جناحيه!؟ تزوجنا منذ أكثر من عشرين عاما وعصفت بي خلالها أيام وأقدار عصيبة، فقدت والدي تباعا ثم أخي في حادث مروع وداهمني مرض عضال ودخلت في سلسلة عمليات جراحية معقدة ثم أصبت بالاكتئاب المرضي وأنجبت له البنين والبنات ولم أحظ بحضن واحد حنون منه!! ثم توغلت في تفاصيل حزينة وشجية حتى قالت: كنت دائما أتعطش لنظرة رحمة منه؟! ألا يكفي أنه اختارني لنطفه؟!.
وأخيرا ختمت حديثها الطويل بجملة تختزل الحكاية كلها والحزن يحتشد في نبرة صوتها: لكن يجب أن يعيش الأبناء في كنف والدهم! حدقت في عينيها وكادت تنفلت كلماتي لكني لجمتها قبل أن تنبجس وتتطاير في الهواء: الأولاد يعيشون في كنف وأنت تعيشين في كفن! لست أدري تماما! ما الذي جعل عقلي يقلب الحروف فاستحالت كلمة كنف كفن!!.
المرأة تحكي وتحرك كفيها ذات اليمين وذات الشمال، فيما كانت عيناي على سوار التنس الألماسي الذي خطف ناظري ببريقه المتلألئ الأخاذ وذهني يسترجع سر هذه التسمية الغريبة التي ترتبط بقصة تعود إلى عام 1987 حين طلبت لاعبة التنس الشهيرة كريس إيفرت وقف المباراة في بطولة الولايات المتحدة المفتوحة بعد أن فقدت سوارها الماسي الخاص الذي طار عبر الملعب، استردت اللاعبة السوار الثمين ولكنها خسرت بطولة ذلك العام!. نعود إلى المرأة وحديثها عن زوجها أو مصدر الألماس جعل السوار النفيس اللامع يستحيل -في عيني- إلى كلبش حديدي صدئ!، المسكينة امتحنتها الأقدار برجل أمي الشعور والإحساس جعلها تعاني من إملاق عاطفي مزمن! ما أحوجها إلى زوج كريم يرخي عليها من عناقيد رحمته اليانعة!.
تفكرت في كلام السيدة الذي ظل يدور في داخلي يومها، ثم استعدت شكلها وهي تترجل من سيارتها الفخمة وتودع ابنتها الجميلة حاملة حقيبة يدوية فاخرة تساوي الآلاف وتتأبط ذراع ابنها الشاب الأنيق، فيما كنت أتمعن في جمالها الأخاذ وأنوثتها الباذخة وأقول في نفسي: يبدو أنها كانت في بواكير شبابها آية من آيات الجمال! ثم قابلتها بعد ذلك في منطقة الانتظار وكان الحديث الذي بيننا فأدركت أني رأيت واجهة الحكاية ولم أتبصر كواليسها!، أما نفسي فقالت لي هذه المرة: حقا حقا لو دخل كل منا قلب الآخر لأشفق عليه ولرأى عدل الموازين الباطنية برغم اختلال الموازين الظاهرية!.
@ghoweid