قرر أعضاء مجلس إدارة إحدى الشركات الألمانية الكبرى إنشاء خط إنتاج جديد في الولايات المتحدة الأمريكية، فطلبوا من الرئيس التنفيذي إعداد الدراسات الفنية اللازمة لذلك المشروع الضخم. وفي الاجتماع التالي للمجلس، قدم الرئيس عرضاً تفصيلياً لمراحل إنشاء المصنع، الذي يتطلب من وجهة نظره سنة كاملة. لم تكن المدة مقنعة بالنسبة لهم، فالوقت لدى المستثمرين يحسب بالملايين. لذا، أصدروا قرارهم بأن يتم إنجاز المشروع في ستة أشهر فقط. كان ذلك بمثابة التحدي للرئيس التنفيذي وفريقه، فاتفقوا على فكرة ذكية، وهي تقليص إجراءات العمل 50% عن المخطط له. فعندما بدأوا بهذه الإستراتيجية وجدوا على سبيل المثال أن عملية توريد المعدات تتطلب ثلاثين يوماً، وبعد تحليل إجراءاتها اتضح أن التوريد فعلياً يستغرق يومين، أما بقية الشهر فهي إجراءات ورقية وتواقيع عديدة لا تشكل غالبيتها أهمية للعملية نفسها. وهكذا استمر العمل على هذه الوصفة الناجعة لتحسين العمليات حتى تمكنوا من إنجاز المشروع بكل رشاقة في أقل من ستة أشهر.
يرى عالم الجودة إدوارد ديمينج أن 94% من المشكلات، التي تواجهها المنظمات يعود إلى نظم العمل، التي تضعها. كما خلصت إحدى الدراسات السابقة، التي تم تطبيقها على عدد من المنشآت في قطاعات مختلفة إلى أن أسباب المشكلات في المؤسسات واتساع الفجوة مع العملاء وتسربهم ترتكز بنسبة 69% على أنظمة وإجراءات العمل، وتوزعت بقية النسب على الموارد المالية والبيئة والموظفين. ومن ذلك يتضح جلياً أهمية إدارة العمليات، التي تعد بمثابة العمود الفقري لأي منشأة كونها المسؤولة عن ترجمة رسالتها ومهامها الرئيسية إلى خدمات أو سلع تقدم للمتعاملين، وهو الأمر الذي جعلها ركناً في معظم نماذج تميز الأعمال المحلية والعالمية. وكما نعلم يقيناً، فإن القطاع الحكومي والقطاع غير الربحي يعملان بلا هوادة في مواطن مختلفة لتقديم جملة من الخدمات الجوهرية لجميع شرائح المجتمع، وعلى ضفاف آخر يقابلهم سقف عالٍ جداً من التوقعات لدى المستفيدين، وهذا بلا شك يرفع من حمى التحديات أمام منسوبي تلك المؤسسات، مما يجعلني أرى ضرورة دراسة استحداث وحدة «إدارة العمليات» ضمن الهياكل التنظيمية لتلك الجهات الخدمية المهمة. إذ إن استثمار الجهود في هذا المجال والتركيز عليه يسهم أولاً في ضبط منهجية تقديم الخدمات ومأسسة العمل بها، وأذكر أنني تقدمت يوما ما بطلب خدمة من إحدى الشركات، فتلى علّيَ الموظف قائمة من المستندات لإحضارها، وبعد أيام عدت بالمتطلبات لنفس الموظف وإذ به يقول: مَنْ طلب منك كل هذه الأوراق؟.. أيعقل ذلك!!
كما أن إدارة العمليات لها فوائد جمة تتمثل في تحسين جودة الخدمات، وزيادة الإنتاجية، ورفع مستوى الرضا لدى المستفيدين وتقليص الهوة معهم، بالإضافة إلى تخفيض التكاليف والوقت والجهد المبذول في العمل. وذلك معطوف على دورها المحوري في تطوير ملف الحوكمة والامتثال للأنظمة، ورفع مستوى التكيف والمرونة والاستجابة للمتغيرات المتسارعة، التي نشهدها في هذه الحقبة.
ختاماً أقول، إن وضع العمليات المؤسسية تحت مجهر إدارة متخصصة تتولى الرعاية والعناية اليومية بها لم يعد خياراً، بل أصبح أمراً ملحاً جداً للوصول إلى ما تصبو إليه مؤسساتنا من التميز في تحقيق رسالتها السامية والمستهدفات، وكذلك تعزيز موقعها في سباق المنافسات، وتحسين ترتيبها على سلم المؤشرات.
@azizmahb