كانت حقيبتي المدرسية جاهزة وبها دفتر من فئة العشرين ورقة المدون على غلافه من الخلف جدول الضرب الصغير، وجدول الضرب الكبير. وبراية، ومساحة مستطيلة من لونين أبيض لمعظم جسم المساحة وأخضر صغير يحتل الجزء العلوي منها، وكان للمساحة رائحة عطرة قوية لا تقاوم. مدت لي أمي فنجال الحليب بالزنجبيل والأعشاب الشعبية، فرفضت تناوله، بهزة خفيفة من رأسي، فقدمت لي صحنا فيه بيض بالطماطم، وقالت لي رحمها الله: - كل!
وتابعت، وكأنما تحذرني، وأنا صامت.
- وق كبدك، وراك يوم طويل.
- كنت صامتا لأنني لم أعرف بماذا أجيب، وكانت أقرب رغبة لي أن أرفض الخروج من المنزل، في هذا الصباح الباكر، وبهذه الهيئة. وفيما أنا شارد الذهن جاء صوت والدي من خارج الغرفة الدافئة، يحثني على الخروج، وميزت من كلامه قوله: - هذا أول يوم، وآخر يوم..
يقصد القيام بمهمة إيصالي إلى المدرسة بالسيارة، لأنه تأخر على عمله ليقوم بمهمة التوصيل.
لم أفكر في المسافة من غرفة النوم، والجلوس، إلى باب السيارة قبل ذلك اليوم، كانت مسافة طويلة، وخالية من الشغف، شغف الخروج من المنزل، والتنزه بالسيارة. المهم وعند باب المدرسة وكان هناك العديد من الطلاب والآباء، وبعض الأمهات عند باب المدرسة الخارجي مع أطفالهم، كان مشهدا مروعا لطفل في سنواته الست، كان يقضي أولى ساعات الصباح في الفراش، ويستيقظ في الغالب على صدى دعوات والدة حنون. نزلت من السيارة ولم أسمع من والدي قبل أن يغادر سوى قوله: - ادخل مع العيال، الله يوفقك، خلك رجال....
- وتحركت الكدين الحمراء بهدوء، وأنا أراقبها حتى اختفت في آخر الشارع وهي تنعطف تدريجيا إلى جهة اليسار. في هذه اللحظة شعرت بأنني أقف في الفراغ، ولم يقطع هذا الشعور بالهلع عندي سوى صوت صفارة من بعيد تنطلق من فم رجل يرتدي «بنطلون أسود، وجاكيت أزرق». وفهمت مع تكرار الرجل للصفير أنه ينادي الجميع للاقتراب منه والتحلق حوله. الأطفال، والآباء، في حين بقيت بعض النسوة عند الباب الخارجي يراقبن المشهد من بعيد. تحلقت مع الجميع ولفتني بشدة الرجل الذي كان ينفخ في الصفارة بكل قوة، كان طويلا بصورة مبالغ فيها حتى أنني قارنت بين طوله، وطول السيد والدي، وميزت أنه أطول من أبي الذي كنت أعتقد أنه من أطول الرجال. وكانت له بشرة حمراء نبتت على خلفية بيضاء، بل شديدة البياض، وانضم إليه رجال آخرون، خرجوا من المبنى الكبير في الخلفية، وأخذ كل منهم ينادي بأسماء الواقفين من الصغار. وبعد أن ينتهي الواحد منهم من مناداة الأسماء وقد أخبروا من يسمع اسمه أن يؤشر لهم برفع يده، كانوا يأخذونهم بشكل قاطرة مهيبة إلى داخل المبنى الضخم المسمى المدرسة. كانت دعوات أبي لي بالتوفيق، وأمره لي قبل أن يغادر بأن أكون رجلا، وتفحصي للفص اللامع في أزرار ثوبي الجديد شغلي الشاغل حتى انتهى ذلك اليوم. عندما سمعت اسمي رفعت يدي. وسمعت الرجل الذي كان ينادي على الأسماء يقول لي وهو ينظر في وجهي: - تعال هون يا شاطر.
تحركت حيث أمرني، وانضممت إلى غيري من الطلاب وأنا أحمل حقيبتي التي تفوح منها رائحة المساحة، وكانت رفعة يدي تلك الأولى لي، ولم تك الأخيرة...