مع تقدم العالم بخطوات متسارعة نحو أعتاب ثورة صناعية خامسة يأخذ فيها الذكاء الاصطناعي والروبوتات والواقع المعزز وغيرها من هذه التقنيات بزمام المشهد التكنولوجي بشكل لم يسبق له مثيل، سيكون (بكرة) زمنا بعيدا جدا وفيه من الدقائق بل من الثواني ما لا يمكن التفكير في إهدارها لقيمتها وأثرها على تراتبية الأوامر وترابط الإجراءات وتنفيذ الخدمات.
إن الطفرة الإلكترونية الحالية ليست في معزل عن علم الإدارة بجميع جوانبه، فما زال أفراد المجتمع في حاجة لإنجاز معاملات شخصية أو تجارية مرتبطة بالإجراءات الحكومية، وما زالت الحكومات مطالبة بتلبية احتياجات المجتمع بمستوى من الخدمات التي لا يمكن أن تلبى من قبل جهات غيرها. لذا فالحكومات التي تدرك موقعها على خارطة العالم الحديث تسابق الزمن للتقدم في سلم التطور وتحسين جودة الحياة في المجتمعات التي ترعاها، وفي سبيل تحقيق ذلك، كان على الحكومات أن تراجع وتقيم باستمرار مدى تطور إجراءاتها والبنى التحتية اللازمة التي تمكنها من تقديم خدماتها بمستوى تواكب به العصر وتحدياته، فتبدأ هذه الحكومات الواعية بتحديد رؤية صحيحة لما تريد أن تكونه في المستقبل البعيد، وتحلل على أساس ذلك الفجوة بين واقعها ومستقبلها المأمول، ثم تحدد المحاور الرئيسية والخطوط العريضة لاستراتيجياتها البعيدة والمتوسطة المدى، وبالتالي تضع الخطط المناسبة وتحدد الأهداف وتعين الأدوار والمهام.
وفي سبيل تنفيذ خططها الاستراتيجية وتحقيق طفرة حقيقية في جودة خدماتها، تعمل هذه الحكومات على تطوير الإجراءات بمراجعة العمليات الإدارية وإعادة هندستها وهو ما يطلق عليه (الهندرة)، حيث تعمل على إعادة تصميم جذرية للعمليات الرئيسية والبدء من الصفر لإيجاد حلول جذرية وليست مؤقتة ولا شكلية، فالتطور الذي تنشده مثل هذه الحكومات الطموحة لا يقف عند حدود التعديل والتحسين الطفيف، فذلك لن يحقق لها النجاة أمام الطفرات المتلاحقة للتكنولوجيا ولن يسند اقتصاداتها ولن يلبي المتطلبات العصرية لمجتمعاتها.
هنا في السعودية العظمى، في زمن الرؤية الجديدة، نعيش هذا الحلم واقعا ملموسا كل يوم، بل وتباهي به الوزارات والمؤسسات الحكومية في ثقة وتحد أمام مراجعيها، كوزارة التجارة والاستثمار على سبيل المثال لا الحصر، التي تعلن بكل ثقة بأن 180 ثانية كافية لاستخراج سجل تجاري جديد، وهذا مثال على خدمة حكومية واحدة غيرها المئات من الخدمات التي أصبحت تنجز بضغطات على لوحة المفاتيح، لا أبالغ إن قلت بأن هناك من يعد هذه الضغطات ويستهدف تقليلها إلى الحد الأدنى، نعم فلقد وصلنا إلى هذا المستوى من التطور في جميع الدوائر الحكومية والتي لن تجد واحدة منها دونما واجهة إلكترونية تمكن (المستفيد) من الحصول على خدماتها بأقل قدر ممكن من الوقت والإجراءات. ولو لاحظتم فأنا لم استخدم كلمة (المراجع) وهذا ليس تجميلا مني، كلا، فالدوائر الحكومية السعودية في زمن رؤية 2030 تتبنى العمل المؤسسي، لذا فهي تعتبرك مستفيدا أو بمعنى آخر عميلا تسعى لإرضائه بمعايير جودة أداء محددة وواقعية وغير صورية تخضع للمتابعة من قبل جهة عليا تتمثل في المركز الوطني لقياس أداء الأجهزة الحكومية (أداء) وهو «مركز حكومي مستقل يرتبط تنظيميا برئيس مجلس الوزراء ويعمل على قیاس مؤشرات أداء الأجهزة العامة وقياس رضا (المستفيدين) عن الخدمات الحكومية» بحسب النص المعرف للمركز في موقعه الإلكتروني.
(راجعنا بكرة) أصبحت من مخلفات الماضي، وأجيال المستقبل لن تفهم هذه العبارة، فنحن اليوم لا نطيق انتظار تحديث الصفحة أو وصول رسالة رمز التحقق لجوالاتنا إذا تأخر ذلك بضع ثوان عن المعتاد، والله أعلم كيف سيكون من الممكن إرضاء المستفيد في زمن الـ 5G، أو كيف ستكون شكاوى المستفيدين في زمن الروبوتات وسيطرة الآلة، ويصعب علي تخيل المشاكل التي ستجعل مستفيد المستقبل يشتكي، ولكنني على يقين بأن خبراء الإدارة لديهم دائما القدرة على إيجاد الحلول.
@piolc