وأكملت سؤالي بقولي مازحاً:
- أفصح، أبن، اشرح، لو سمحت.
اعتدل الزميل في جلسته، والتفت إلى الخلف، ليعدل المسند الذي يقع في ظهر المقعد الذي يحتله، ثم اعتدل في جلسته وراح ينظر أمامه وكأنه يتابع جسما متحركا لا نراه، زميلي المتقاعد، وأنا. وقال:
- يا أخي أبو فارس..
يقصد زميلنا المتقاعد، وكان يشير إليه بيده اليمنى وهو يتحدث. وأكمل:
- يستطيع أن يكتب قصة حياته، تاريخه، تجاربه الطويلة في هذه الحياة.
وعاد يلتفت للخلف يعدل مسند مقعدة الخلفي ثم اتجه لنا بكليته، وأكمل:
- أبو فارس، عاش حياة مليئة بالتجارب، منذ أن كان راعياً للأغنام في قريته الجبلية الصغيرة، ولديه تجربة في قسوة زوجة الأب، وتجربة أخرى في السفر إلى المدينة، والعمل في شركات النفط عامل تحميل، وتنزيل، ثم التحاقه بالتعليم العام في سن متأخرة، مقارنة بمن هم في سنه، ثم حصوله على وظيفة رسمية متواضعة، بذل فيها جهودا كبيرة وتحصل على مناصب متقدمة، وأكمل تعليمه حتى أصبح أستاذاً للأدب المقارن في جامعة مرموقة.
اعتدل في جلسته، وتخلص من خرطوم الأرجيلة الذي كان يحتفظ به وهو يتحدث، ومد يديه إلى الأمام لتشير لصديقنا المتقاعد، ولي، وكنا على مسافة منه تفاديا لرائحة الأرجيلة، وحفاظاً على تعليمات التباعد الصحي، وقال:
- كل هذه عناصر يمكن أن تشكل قصة مشوقة تعجب الناس، الأهم من ذلك قد يكتشف أبو فارس، وغيره من المتقاعدين الجدد، أو القدامى في نفسه كاتبا وقاصا، أو حتى روائيا مدفونا في ثناياه الداخلية، دفنته أيام العمل، وروتين الحياة، وساعات التحضير للدروس والاختبارات، والاهتمام بتربية الأبناء، وآن لكل ذلك أن يعود إلى مكانه، كما آن الأوان للرجل أن يعيد اكتشاف نفسه، وتفحص ذخيرته من الحياة، ودروسها.
كان ما سبق أبرز ما دار في إحدى جلساتنا كأصدقاء قدماء، وفكرت فيه طويلاً فلربما ما استمعت إليه يحفز الزميل أبا فارس المشتكي دائماً من التقاعد، وسنينه، كما أن هذه النصيحة قد تعمل -أقصد قد تفيد- غير زميلنا المتقاعد، تبقى جزئية صغيرة وهي أن البعض لا يجد صبراً كبيراً على الكتابة، أو يعتقد أن ما يكتبه دون المستوى، أو يحتاج لمساعدة من مختص في هذا النوع من الكتابة. كل هذه الأفكار محل احترام وتقدير، ولكنها لا تمنع التجربة خاصة لمن يعانون من تجارب متتالية الفشل يلجأون إليها للخروج من وضع التقاعد الذي جوهره تغير في نمط الحياة اليومية التي استمرت لعقود.
وأنا أتفكر في هذه النصيحة التي جاءت عابرة في جلسة أصحاب قدماء، تذكرت أناسا كثرا، كل منهم يحمل تاريخا، وذخيرة من الحكايات، جديرة بأن تروى، والبعض منها جدير بان يسمع، أو يُقرأ. حتى أن بعض تلك الحكايات لا يصدق من استمع إلى بدايتها أن تكون نهايتها بالشكل الذي انتهت عليه في واقع الحياة.
salemalyami @