ومن أشهر رواد تلك المرحلة، الأديب عبدالوهاب إبراهيم آشي، وهو كاتب وشاعر ولد بمكة المكرمة عام 1323هـ - 1905م، وهو من رواد الصحافة في الحجاز، ومن طلائع نهضته الأدبية والفكرية، كان أول رئيس تحرير لصحيفة صوت الحجاز، وأحد مؤسسي نادي مكة الأدبي، ومن المشاركين في مؤتمر الأدباء السعوديين الأول الذي عُقد في مكة عام 1974م، وله قصة قصيرة مشهورة بعنوان «على ملعب الحوادث»، وهي من أولى القصص القصيرة المنشورة في الأدب السعودي، حيث نشرت في كتاب جمعه محمد سرور الصبان بعنوان «أدب الحجاز أو صفحة فكرية من أدب الناشئة الحجازية»، وصدر هذا الكتاب عام 1926م، وهو كتاب نادر تمكن مؤلفه من جمع بواكير حركة الإبداع من الشعر والنثر.
وفيما يلي نص هذه القصة النادرة، مأخوذًا من كتاب «أدب الحجاز»..
«على ملعب الحوادث»
على شفير ذلك المزدان بصفحات الرمال، ونواتئ التلال، وقفت وفي يدي «عصا وسبحة»، وعلى رأسي «عمامة وجبة».
هي كل ما اخترته من ميراث أبي وأمي. وخالي وعمي.
تلفت يمنة ويسرة، فلم أر إلا ظلال أرواح مختلفة، وآثار أقدام حيوانات شتى.
والجدول ينساب بمائه الرقراق يشير إلى جلال السعي والأعمال وعظمة شأن التسيار لنوال المرام! والنسيم يتلاعب بمختلف الأغصان يرمز إلى تقلب الأيام ورواغ الأزمان!
على مد البصر وعند خط الأفق المستدير. بين زرقة السماء واكفهرار وجه الغبراء. رأيت شبحًا لم أتبينه، وأسودة يخفيها السراب ويبديها.
فحدثتني النفس باكتشاف ما لمحه البصر. هي ساعة التردد بين الإقدام والإحجام. ما لبثت أن زالت، وإن هو إلا قلبي الجسور المقحام يدفعني إلى الأمام.
وصلت المنتهى فرأيت شيخًا عربيًّا كهلًا وضيء المحيا مهيب الطلعة، وقبالته فتاة كطلعة الشمس نورًا وبهاء وخمائل الربيع نضرة وجمالًا. تنظر إلى ذلك الشيخ باكية مرتاعة ناحبة ملتاعة. وفي يدها «مصباح الهدى»، وعلى رأسها «الكتاب المشرف».
وهو محملق بعينيه فيها. لا يشك رائيه في أن نظرته نظرة غضب مشوبة بأسف يخامره أمل عتيد.
بين بكاء الفتاة ونحيبها، سمعت كلمات متهدجة، تخاطب بها شيخها الوقور، مؤداها:
- يا أبتاه هرمت فهرمت جيوش نصرتي، ووهت قوى أبطالي ورجالي. تهدم عزمك فتهدمت هياكل تقديسي، وانقضت معابد آثاري وانهارت مساجد تتلى فيها آياتي.
يا أبتاه! تقضي عهد حياتك فانقضى به ربيع حياتي، ودفنت أثره حسناتي، وغمط فضلي، وضاع أملي. وعدت كاليتيم في مأدبة لئيم.
يا أبتاه! كنت في كفالتك ناعمة البال، رخية العيش، هنيئة قريرة. تقسو عليَّ لأزدجر، وتنهرني لأنتهر، وتبسم لي عند الرضا. فتملأ جوانحي سرورًا، وتفعم قلبي أملًا نضيرًا.
يا أبتاه! كنتُ - حينما تندفع بجسدي قوى العضلات، وتجري بسوق كأنها قطع الفولاذ. نحو العمل المبرور، والسعي المشكور. نحو رضى الرب، وإشادة صروح الديانة الحنيفية، ومعاهد المدنية الحقيقية - أطير جذلًا، ويتهلل وجهي بشرًا، وأعلم أن الإله سوف يجزيك خيرًا.
يا أبتاه! رددت عني في غضارة حياتك، وعنفوان شبابك كيد الخائنين، وقمعت أيدي العابثين ونابذت خصومي، وقهرت أعدائي. وما هي إلا جولة جللت ناصيتك بخيوط الكفن، ورمت عزمك بالوهن وأصبحت والدهر على طرفي نقيض، وشاءت الأقدار بأن تغيب عني، وتنسل مني، وتلحد في جوفي، فما فتحت عيني في صباحي إلا تبدلت الوجوه عليَّ، وعدت وليس لي من حقي شيء.
يا أبتاه! انعزلت في هذه الناحية النائية، وقبعت في كسر دارك الأخيرة المنزوية، وبقيت وحيدًا بين من تركتني بينهم، فازورَّ جانبهم عني رويدًا رويدًا، وعدل الكل عن سبيل إصلاحي، وتنكبوا جادة شرائعي وحصبوني وشتموني، وألحقوا بذاتي كل نقص وشين. وأنا أنا مقر «مصباح الهدى» وقلبي مثوى «الكتاب المشرف»! أنا «الحجاز»!
وهنا حدقت الفتاة ببصرها إلى الأفق حيث الشمس منحدرة إلى «الغرب» تريد توديعها، وقد رسمت على قمم الجبال طرائق ذهبية، ومدت على الأرض أسلاكًا فضية، وصاحت بصوت أجش جهوري:
«أين رجالي وأين أبطالي»؟!
فنهض الشيخ بعزم الشاب الملبي. وما عزم ذلك الشيخ إلا مآثره ومفاخره التي لا تزال على رغم الحدثان. دائمة الريعان.
فأطرقت إطراق التقدير والتبجيل ونادت بصوت يمازجه الحنان: «سلام عليكم أيها الشهداء الأبرار، سلام على عهدكم الزاهر عهد المجد والملك الغابر».
ثم وجمت برهة، وألوت بوجهها نحو الوادي الفسيح، وكأني أراه امتلأ أشباحًا وأشخاصًا وفي أيديهم ما في يدي، وعلى رؤوسهم ما على رأسي بعد أن كان خاويًا لا جن ولا إنس. وصرخت قائلة وملؤها الغيظ والحماسة: وعليكم الخزي والعار أيها الأخلاف الأشرار!.