وأنا أتابع الوسم الذي عقب رحيل الشيخ علي بن عبدالعزيز الضويان توقفت عند وصية أدرجها حفيده د. أحمد بن فهد بن علي الضويان، جاء فيها «أود أن يعلم أولادي ذكورا وإناثاً، أنني قد نويت أن يعود أجر وقفي لي ولوالدي ووالدتي ولزوجتي وذريتي من الأولاد ذكورا وإناثاً ما تعاقبوا وتناسلوا ولأجدادي وجداتي ولأعمامي وعماتي ولأخوالي وخالاتي ولجميع أعضاء المجلس الذين يخدمون هذا الوقف، وكل من أسهم ويسهم حالا ومستقبلا في هذا الوقف بجهد أو رأي أو مشورة أو نصح أو تيسير أمر من أموره أو دعوة صالحة، وهذا لما أكنه لهم من رحمة ومحبة ورحمة».
هذه الوصية في كل عباراتها تنضوي على رسائل تربوية يجب أن تُدّرس فهي لا تصدر إلا من محب حريص على ألفة الأسرة ولم الشمل ونفع الجميع أيا كان موقعه وجنسه ذكرا أو أنثى، فالرحمة التي غلفت هذه العبارات كفيلة بأن تفصح عن شخصية راقية ودودة كريمة حريصة على احتواء الجميع وإسعادهم حتى من كانت له دعوة أو نصح أو تيسير أو رأي لم تنسه هذه الوصية المباركة الموجزة.
والقريب من أسرة الضويان الكريمة يلحظ مدى هذا الحب والترابط والتواضع والقناعة التي أسسها الراحل -رحمه الله- فلم يكن المال أو الجاه معينا إلا على مزيد من حسن الخلق والتلطف، وإن كانت الشهادات الورقية هي التي يستند عليها بعض البشر ليثبتوا مكانتهم فإن الشيخ علي الضويان كبقية جيله لم يحملوا الشهادات العالية لكنه حمل كل معانيها ورقيها، وإن كان اسم علي الضويان لم يبرز في قوائم الظهور فإن ما أخفاه أكثر مما أعلنه، وصدق فيه قول المصطفى الكريم «ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه». والناس شهود الله في أرضه فليس الإعلام هو مؤشر العطاء! ولا إدراج الاسم في لوائح المتبرعين هو فيصل تقييم الشخصيات فهناك من تتحدث أعمالهم عنهم دون مشقة ! إن عدد الجمعيات والبرامج التي أكدت الوقفة السخية للشيخ علي في مسيرتها والأثر الذي تركه خلفه لتؤكد عدم حرصه على الظهور أو اكتراثه به أو إعلانه عنه.
في هذا المقال لم أتناول سيرته العطرة التي غصت بالصبر والكفاح والأمل والدروس فهو رجل أعمال وعقاري واقتصادي تنقل ما بين أشيقر والأحساء والجبيل والدمام، لكن كل ما ركزت عليه هو ذلك الإنسان بإنسانيته فقط، ذلك الزوج والأب والخال والعم والأخ والجار والمحسن لأن كل هؤلاء ترك لهم بصمة لن تمحى في تاريخ إنسانيته وبساطته.
إن وفاة الشيخ علي في هذا الوقت أحدث أثرا عميقا في نفوس أهله ومحبيه، ولو كانت الأيام عادية لخرجت في جنازته أمة تبشر له بالخير وتشهد به بأنه عفيف اللسان سمح النفس دمث المعاملة، باذل للخير سباق إلى المعروف واصل لرحمه بار بهم محافظ على صلاته، رحل الشيخ علي بخاتمة طيبة مطهرا نفسه من الذنوب، فقد أصاب منه المرض ما أصاب وعظم الجزاء من عظم البلاء، رحمه الله تعالى وجعل ما قدم في ميزان حسناته.
المرأة:
كلما تذكرت السيدة الفاضلة حصة السحيمي (أم إبراهيم المنصور) قبل عدة سنوات وهي تقف أمام بوابة مدرسة عائشة بنت أبي بكر الصديق لتحفيظ القرآن الكريم، وهي تستقبل الدارسات الراغبات في الالتحاق بعضوية جمعية تحفيظ القرآن الكريم وتحمل بين يديها أوراق العضوية على كبر سنها وسحنتها الملائكية ونظرتها الهادئة والقبول الكبير الذي حصدته دون كثير كلام ليدرك تماما أن هناك أناسا في الأرض وقلوبهم في السماء، إن التواضع المرسوم على جبين تلك السيدة لا يعطي انطباعاً مطلقا بأنها من الطبقة المخملية التي لا تتعاطى إلا الماركات العالمية وتتلبسها وإن كانت من أهلها ! فالمجتمع الذي خلقته مجتمع بسيط يحفها فيه المساكين من كل صوب، فالدروس التي كانت تعقدها في بيتها وتستضيف فيه الفاضلات والتربويات والمربيات لتبعث في نفوس زائريها كل فضيلة، وليكون مجلسها مختلفا عن المجالس النسائية المعهودة فلا سباق على الأفخم من اللباس، ولا تنافس على أخبار الآخرين وقصفهم ! فالقاصد لبيت أم إبراهيم إما من طبقة تماثلها أحبت تلك المجالس ووجدت فيه أنسها ولقيا مثيلاتها قاصدات صلاح النفس وترميم الأسرة أو هن أسر فقيرة قصدت ذلك البيت المبارك لتنتفع ببرها وإحسانها، وفي الحالتين تلتقي تلك الفئات في مجلس واحد ! يحتسين القهوة سويا ثم تجد أسرة منهن راوجا لمشروع ما أو بضاعة أحضرتها معها وتجد أخرى حلا لمشكلة أسرية واجهتها وهكذا فهو مجلس مبارك بكل المقاييس، وما رأيت تلك الفترة من أسرة سواء في الدمام أو الخبر إلا وكانت أم إبراهيم حاضرة ضمن المحسنين إليها، فهي فرد بصورة جمعية خيرية متكاملة، فهي تكسو وتطعم وتقرض ثم تسكت فلا يعلم ببرها أحد.
إن هذا الجانب من جوانب السيدة الفاضلة حصة السحيمي هو الجانب الظاهر الذي يعرفه الجميع فليس سراً خافيا نطلعه اليوم ! وإن كانت أسرتها لديها الكثير من مناقبها مما لا يُعلم فإننا شهود الله في أرضه، والثقة الكبيرة التي منحها لها الجميع في مسيرة العمل الخيري وفناء عمرها فيه ما بين حفظ للقرآن الكريم والاهتمام بالمحتاجين لهو أحد مؤشرات الصدق مع الله، فمنذ انطلاق مدارس التحفيظ وهي إحدى رائداته المترنمات بآياته المهتمات بنجاح مسيرته.. وهكذا هم الراحلون الهادئون يعيشون بصمت وينجزون بحب، حتى إذا ما رحلوا فاح عبق رحيلهم يقودنا نحو الأثر.. حتى الضجيج الذي أحدثه فراقهم ضجيج ! يسلي النفس ولا يشقيها ! فبورك من ضجيج ! رحمة الله تعالى تغشاكم أيها الراحلون فقد أتعبتم من بعدكم.