قبل عدة أيام ذهبت للمسجد مبكرا لأداء صلاة التراويح لا سيما وأن الطاقة الاستيعابية للمسجد قليلة في ظل التباعد وجائحة كورونا طمعا في أن أجد مكانا استراتيجيا بعيدا عن دفق هواء المكيف وصدى مكبرات الصوت لكن بعض المُصَلّيات حلفن أيمانا مغلظة أن ينغصن علي روحانيتي التي لا تأتي في كل وقت! فبدأت واحدة منهن تطفئ المكيف وأخرى تشغله فيما تتمتم إحداهن بكلمات تشعر الأخرى ببداية حرب ضروس ! لم أنزعج من هواء المكيف فالمكان الاستراتيجي المختار مسبقا كان مريحا لولا كثرة الحركة نحو قابس المكيف للإطفاء والتشغيل، انتهت الصلاة على خير ولم آخذ منها القدر الذي تأملته من الخشوع بعدها عرفت أن جماعة هذا المسجد رجالا ونساء من فئة الذين «لا يعجبهم العجب !» وأن أكثر من إمام تعاقبوا على المسجد بسبب جماعته الذين يقفون بالمرصاد لأي شبهة تقصير أو خلل أو شبهة خلل فـ «يُنَحِّشُون» الإمام !! وأدركت حينها لماذا يبحث إمام المسجد عن الجماعة الهينة اللينة ضمن شروطه ليكون إماما !! وذكرني هذا الموقف بحاوية النفايات في حينا والتي لم تستقر في مكان فكلما وضعت البلدية الحاوية بالقرب من أحد البيوت لكزها صاحب البيت للبيت المجاور! والبيت المجاور يلكزها للذي يليه بحجة رائحتها وقربها من البيت ! وهكذا حتى خرجت عن مسارها إلى رأس الحي فاستثقلت بعض البيوت الذهاب للحاوية لإلقاء نفاياتها ! فألقاها البعض أمام ساحة أحد البيوت فيما بدأ اللغط والاستياء حول مكان توضع فيه الحاوية يرضي جميع الأطراف ولا يشق عليهم في التخلص من نفاياتهم..
وبغض النظر عن الموقف الذي ذكرت وملابساته التي قد تخفى فكثيرة هي المواقف التي نشعر فيها أن الدنيا خلقت لنا ولا مكان للآخرين فيها ! وكثيرا ما نعتبر التنازل نقصا وعيبا فنبتعد عن روحه وإن كان هو الحل الأسهل فنخسر الكثير من المكتسبات والمميزات ولولا التمسك بالرأي والعناد لما دامت العشرة بين الزوجين ولما استمرت الحياة التي تعتريها متغيرات كثيرة ومتسارعة وإن كنا لا ندعو للتنازل عن الثوابت في حياة البشر كالعقيدة والأخلاق والقيم، فهي لا تقبل المساومة كما قد تكون الكرامة (المصطنعة) حاضرة بقوة في بعض الصراعات فتفسد الود وتقطع الأمل في التسامح ! لكننا نتحدث عن بعض القناعات التي قد تكون هي مفتاح حل الخلافات ورأب الصدع بين الناس وبخاصة الأسر والعائلات التي يجب أن تتعامل بمبدأ حسن الظن والتسامح والتنازل، فالخلافات في هذا العصر لا تأخذ وقتا ولا جهدا في أن توقع في كشف الحضور دون انصراف !!
وفي المقابل هناك الكثير من المتنازلين الذين أضحوا ضحايا لأنانية البعض فوجدوا فيهم الحلقة الأضعف فزادت أنانيتهم ووضعوا دمغة لا يمكن أن تمحى في جبين المتسامح فوصفوه بالضعيف والمتناقض فيطمعون فيه ويزداد غلطهم !! فكن وسطيا وداري جميع الناس لتكسب ودهم ولتبقى في المنتصف كشعرة معاوية حين قال «بيني وبين رعيتي شعرة إن أرخوها مددتها وإن هم مددوها أنا أرخيتها»
وما أجمل أبيات الإمام الشافعي حين قال:
لما عفوتُ ولم أحقد على أحد
أرحتُ نفسي من هم العداوات ِ
إني أحيِ عدوي عند رؤيته
لأدفع الشر عني بالتحيات
وأظهر البشر للإنسان أبغضه
كأنما قد حشى قلبي محبات
الناس داء ودواء الناس قربهم
وفي اعتزالهم قطع المودات
@ghannia