لم أمارس الصحافة كمصدر دخل أساسي، أو العمل الأساس، بل مارستها كمحرر متعاون «عن بعد»، وهي ممارسة لم تأخذ اهتمامي كله، ولم أفنِ فيها عمري، وكنت أمارسها كهواية محببة، ومع ذلك فإذا كان الأديب شخصا فطنا واعيا ومؤسسا تأسيسا معرفيا نظريا جيدا في فني الصحافة والكتابة الأدبية، وممارسا محترفا لهما، فإن العمل بالصحافة لن يؤثر أبدا، وسيكون الأديب قادرا على الفرز وعلى التمييز بين الكتابة بلغتين، لغة صحافية سهلة تكون لمهنة الصحافة بما فيها من أخبار واستطلاعات وتحقيقات وزوايا يومية وأسبوعية طابعها الإخبار، واللغة البليغة التي لا سهولة ولا تقريرية ولا إخبارية فيها، تكون لأجناس الأدب كالقصة والرواية والمسرحية، وعملية الفصل بين الاثنتين- الصحافة والكتابة الأدبية- لا بد أن تكون بسكين حادة تكون بمثابة البرزخ الفاصل بين ماءين، فماء الصحافة يبدو ملحا أجاجا، وماء الكتابة الأدبية يبدو لي عذبا فراتا.
● لك عدة كتابات نقدية مهمة.. فهل ترى أن النقد يواكب الطفرة الإبداعية الملحوظة بالمملكة؟
النقد لا يواكب الطفرة الإبداعية في المملكة، بل إنه متخلف كثيرا عنها، ويمكن أن نصف البون بينهما بأنه واسع جدا، رغم وجود كثير من الأسماء المجتهدة التي لم تكف عن ممارسة الفعل النقدي من بدايتها منذ 30 عاما حتى الآن، ولكنها لا تستطيع أن تسد هذه الفجوة، ذلك أن الأدباء والأديبات الذين يولدون لدينا يفوق عددهم النقاد والناقدات، ولا تصح المقارنة بينهما من حيث العدد، ولكن ثمة ظاهرة تدعو للتفاؤل وتبشر بنهضة مستقبلية في هذا الشأن، على مستوى النقد الأكاديمي تحديدا، ذلك أن عددا كبيرا جدا من موضوعات رسائل الماجستير والدكتوراة في الجامعات السعودية تسجل عن أدباء وأديبات سعوديين.
● كتبت في كل فنون السرد.. فكيف تتجه بالفكرة الإبداعية إلى أحد تلك الفنون؟
الكتابة السردية لدي ليست فعل استهواء، أو توجها قصديا إلى الورق، واستدعاء للحبر، واتخاذ قرار مع الذات لأن أكتب قصة قصيرة أو رواية أو مسرحية أو قصة قصيرة جدا، ذلك أن هناك شيئا خارجا عن إرادتي يملي علي شكل ما أكتب أو جنسه، إنها الفكرة، فالفكرة عندما تحضر في ذهني وتعيش في وجداني وتركض في مخيلتي فإنها هي من تقولب ما أسرده، وتقرر عنوان النص، وتختار مواصفات بطله، وترشح لغته وتقترحها، وعنصرا الفكرة والشخصية يحددان غصبا جنس الكتابة السردية ومسارها، فليست أي فكرة تصلح لأن تكون فكرة روائية، وكذا الحال بالنسبة للقصة القصيرة لها ما يلائمها من الأفكار.
● وصفت كاتب القصة القصيرة بأنه محظوظ إبداعيا.. لماذا؟
محظوظ لأنه يكتب الجنس الأدبي القوي، والجنس الأصل الذي تفرعت منه أجناس سردية أخرى، ولأن من يكتب جنس القصة القصيرة فإنني أرجم بالغيب وأقول: إنه قادر على أن يكتب الرواية والمسرحية والقصة الطويلة والمقامة والقصة القصيرة جدا، فالقصة القصيرة جنس مرن يستطيع الكاتب أن يطوع فيه لغته ومهارته وأفكاره حسب درايته بعناصره الفنية وبقالبه السردي، كما يمكنه التحرر من هذا القالب إلى عالم الرواية الرحب، أو أن يرتد ويقوقع نفسه في القالب الفني الصغير جدا، أو يفلت من سجنه ويقع في غرام الحوار المسرحي.
● لماذا يسيطر السرد الأسطوري على معظم أعمالك؟
لدينا مثل شعبي يقول: من انجبر بحصاة شالها «أي حملها»، وقد انجبرت بالأسطورة كحالة إبداعية صعبة وحلوة، وكمناخ كوني لشعور إنساني، فحملتها في نفسي كعقيدة كتابية، عقيدة مؤمن بأنها من أفضل أشكال السرد وأعتاها على الإتيان، وساعدني على الانجبار بها أنني من أصحاب الطبع الصعب ومن محبي النفائس، ولا أحب الحصول على الأشياء السهلة، والأسطورة بطبيعتها نفيسة وصعب تخلقها.
● أنت أحد المؤمنين بمقولة إننا في زمن الرواية.. وفي الوقت نفسه قلت إن الأمة العربية أمة شعر.. فكيف توفق بين المقولتين؟
العربي كائن سماعي طربي، والموسيقى تسكن جسده، إنه يحب سماع الأخبار، وذلك يقدم الشعر كفن مفضل لديهم، لأنه يشبع حاجة الإخبار ويمنح النفس الموسيقى إذا روي ملحنا، وكثير من قصائد العرب- سواء كانت بالفصحى أو العامية- يكون هناك مناسبة أو حادثة من وراء قولها.
والرواية الحديثة فن نثري طويل لا يناسب إيقاعه حالة قصر النفس والملل السريع والنزق، وهي من صفات كثير من أبناء العروبة، والعرق العربي عاطفي ميال للحب وتكسره فواجع الفقد، وكلها موضوعات تناسبها القصيدة وليس الرواية.
● هل انعكاس ظروف المجتمع على كتابة أديب ما شرط لنجاح إبداعاته؟
لا ليست شرطا، فالموهبة هي أساس النجاح، وتغذية الموهبة بالقراءة وبالتأمل وبالتفكير في التميز عن أصحاب الصنعة الواحدة أو أهل الفن الواحد هو الذي يقرر نجاح الكاتب قياسا إلى غيره من الكتاب الآخرين، أو يعلي مرتبته عليهم، ولكن يبقى الغرف من مشاكل المجتمع بمثابة بئر أفكار مساعدا لرفد الموهبة كي لا تعجز ولا تشيخ ولا تتراجع إلى الوراء عندما لا تجد ما تكتب عنه.
● تحرص على أهمية الصورة في كتاباتك.. وتتميز في الوقت نفسه بتميز أسلوبك السردي.. فكيف تصنع هذه الجدلية الإبداعية؟
الصورة الفنية الإبداعية قد تكون من فعل الشخصية السردية، أو قد تكون الشخصية السردية قد تعالقت مع هذه الصورة الفنية إذا كانت الصورة جزءا من وصف اللوحة القصصية أو رسم المشهد القصصي، ولكن يفترض ألا تتوالى الصور الفنية في النص السردي بشكل متتابع يجعل مناخ النص ينتقل من جنس السرد إلى جنس الشعر، وأن يكون هناك أيضا نوع من الحذر في عرض الصور الفنية في ثنايا المتن السردي، بحيث تمنح الحكاية نصيبها من الظهور بشكل علني وواضح لا يؤخره أو يقطعه اقتحام الصور الفنية له، أو دخولها عليه دخولا فجا، والمسألة كلها لا تعدو إلا أن تكون تقنينا في طرح الصور الفنية بما يشبع خيال القارئ، ويرضي ذائقته الأدبية دون المساس بالمسار الكرونولوجي للحدث.
● متى يكون الرمز والغموض ميزة أو عيبا في العمل الأدبي؟
الغموض بمعناه الفني الذي يدعو إلى جذب حواس القارئ كلها، والرمي بها في داخل النص لكي تتوحد معه، وتعمل كل حاسة في الدور المناط بها وتنقب فيه عما يستثيرها، وعما يجعلها تعمل بكفاءة كاملة، وعما يدفعها إلى القبول أو الرفض، والذي يجر قلب القارئ وعقله معا ويجعلهما يتصديان للنص وينجحان في القول بجماله، ذلك هو غموض الميزة، أما الغموض القصدي الذي يلجأ إليه الكاتب للوصول بالمتلقي إلى حالة التعمية وبث مسالك الاتصال أو التواصل مع النص، وتحول المكتوب إلى شبكة من الألغاز أو الأحاجي، التي حتى الكاتب نفسه لا يفهمها ولا يستطيع حل طلاسمها وفك أقفالها، فهو غموض العيب.