لكن واقعنا الحالي يشي بخلاف ذلك، فالتشرذم والركون لخلافات الماضي واستحضاره في أزمات الحاضر هو السائد. فلماذا هذه المفارقة، هذا هو جوهر سؤالي؟!
يحيلني هذا السؤال إلى الحديث عن المؤرخ والمفكر هشام جعيط المسكون بهواجس التاريخ والمهموم بقضايا فلسفية والنظر الانثربولوجي، وهو الذي توفي الأسبوع الماضي عن عمر ناهز 86 عاما بعد أن قضى جل عمره في البحث والدرس والتأليف، إذ يعد الأب المؤسس لدراسات الإسلام المبكر في الجامعة التونسية.
وثمة سببان عندي لهذه الإحالة:
الأول منه يتعلق بمشروعين سياسيين متقاطعين في النظر إلى بناء الدولة، فترة ما بعد الاستقلال الوطني منذ خمسينات القرن الماضي، فهناك المشروع القومي الناصري في مصر، وبالمقابل هناك مشروع (بورقيبة) التحديثي في تونس المرتكز على مقومات الحداثة الغربية في التعليم وتحرير المرأة وبناء مجتمع عقلاني حديث. الأول ينطلق من معاداة للغرب الإمبريالي بينما الآخر ينطلق من استلهام النموذج وتطبيقه دون مراعاة أي شيء آخر.
الثاني، على خلفية هذين المشروعين يمكن الإجابة عن شق من السؤال السابق، فالمشروع القومي الناصري هيمنت نظرته على تيار شاسع من المؤرخين القوميين في المشرق العربي. ناهيك عن أثر الجيل الأول من مؤسسي التأريخ للقومية العربية المتكئة على التوجه الماركسي بداية من ساطع الحصري إلى قسطنطين زريق إلى عبدالعزيز الدوري أو عادل غنيم.
لذلك لم يكن من المصادفات أن تبتكر الدولة العربية في بعض الأقطار تاريخها القومي انطلاقا من حدودها الجغرافية، مما أخضع مدونات التاريخ الإسلامي في الكثير من التوجهات تحت تشريح النقد الإيديولوجي، وألبسه الثوب القومي بأثر رجعي.
بينما مؤرخ مثل هشام جعيط سليل بيت تربى أفراده على التقاليد الدينية في جامع الزيتونة، ودرس في المدرسة الصادقية المنفتحة على التعليم الحديث، واستكمل تعليمه الجامعي في السوربون بباريس محملا بمعرفة واسعة بالتاريخ الإسلامي ومصادره وبالعلوم الإنسانية الحديثة. يضاف إلى ذلك احتكاكه بالتجربة البورقيبية عن قرب، إذ كل هذه العوامل اتضح أثرها عندما أصدر باكورة إنتاجه «الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي» بالفرنسية عام 1974م ثم صدرت طبعته العربية من دار الطليعة ببيروت عام 1984م.
إنه كتاب يعكس بعمق القضايا التي كانت تفرزها التجربة البورقيبية على أرض الواقع كالدولة الوطنية، والدور المناط للتاريخ لرسم الهوية والشخصية، والاجتهاد في تقديم نظرة جديدة للتاريخ العربي، متكئا على معرفة واسعة في العلوم الإنسانية والتاريخية، منتهيا إلى «أن الإسلام هو العنصر الأساس الذي يشكل الشخصية العربية الإسلامية».
إن النتيجة المتوخاة من هذا العرض هو: خطاب جعيط منظورا إليه من الموقع التاريخي والمعرفي التربوي والجغرافي يختلف كلية عن خطاب منظور إليه تحت وطأة النقد الإيديولوجي القومي، رغم أن مآل المشروعين انتهى إلى غياب الحريات.
[email protected]