أم شاهين إحدى صديقاتها المُقرَّبات، وتزورها في البيت وتُجالسها في حضور أمها وأخواتها أحيانًا، وتتبادل معهنّ الأحاديث الضاحكة وتنقل لهنَّ أخبار نساء الحي، وتُدرِكُ ظروفهنَّ وتُبدي تعاطفها.
دأبتْ أم شاهين على الخروج اليومي من بيتها عصرًا والعودة متأخرة، مما جعل زوجها يرتابُ في أمرها. الظنون استيقظتْ، والأسئلة ازدحمتْ، وباتتْ لا تهدأ، فقرَّر اقتفاء أثرها.
هبطتْ أضواء النهار، وأشارتْ عقارب الساعة إلى الرابعة مساءً، وكما هي تقاليد كل يوم، أسدلتْ عباءتها على جسدها ثم تسلَّلتْ من البيت وانسابَ خلفها زوجها بسيارته. كانت تسير في خطواتٍ واسعةٍ حتى بلغتْ وجهتها: سوق النساء الشعبي في المدينة. الصدمة العنيفة كمَنتْ في أنها تقصد السوق يوميًا للتسوّل مستغلةً التقاليد التي تفرض على المرأة أن تتغطى بالخِمَار، فتنال حظوتها من المال وتعود أدراجها. هي مغامرة محفوفة بالإثارة وممزوجة بالمتعة، وتتم مزاولتها بشخصية مجهولة، والأهم: مقابَلة بتدفق المال السريع والسهل. كلها عناصر جعلتْ أم شاهين تستمرئ الفكرة وتزاولها في ديمومة، بل وتُروِّج لها عند صديقاتها المُقرَّبات اللاتي تثق بهنّ وتأمن جانبهنّ، وكان على رأسهنّ سلمى التي تلقَّتْ مرارًا هذا العرض الذي سيخرجها وعائلتها من مأزقهنّ المالي بيُسر، لكنها كانت تُعرِض في كل مرة.
صاح أبو شاهين في زوجته وسط السوق حانقًا:
- ماذا تفعلين هنا؟
هالها وجوده وحاولتْ أن تستجمع قواها وقالت في لغةٍ مرتبكة:
- أقوم بذلك حتى أُعينك على ضنك العيش وحتى نتمكن من السفر.
جذبها من ذراعها بضراوةٍ أمام الناس، وزجَّ بها في جوف سيارته وانطلق سريعًا، فانهال عليها توبيخًا طيلة الطريق. وعدَتهُ في استخزاء أنها ستكفّ عن ذلك، رمقها بنظرةٍ حادةٍ لا تنمُّ عن تصديق، وراح يمسُد شاربه الكثّ في ذهنٍ شارد.
ما هي إلا بضعة أيام وهفا قلبها مُجدَّدًا لعالم التسوّل. يبدو أن مَراءة المال وسهولة حصده تغلَّبتا على وعدها لزوجها الذي اتخذ بِدَورهِ طرقًا شتَّى لإجهاض محاولاتها في الخروج، كإقفال الباب بالمفتاح أو إخفاء عباءتها، لكن كل محاولاته انصهرتْ أمام إصرارها وأطماعها.
أم يوسف سليطة اللسان، المسكونة بالغلّ، والمملوءة بالغيرة هي جارة وصديقة مشترَكة لأم شاهين وسلمى، حيث تزور الثانية بصفةٍ منتظمةٍ مُستغلةً قُرب المسافة بين البيتين، وتبثُّ إليها بشكواها من زوجها وتصفه بأبشع الأوصاف.
هي ميسورة الحال، لكن يبدو أنها وقعتْ في الشرك المعروف، وراحت تتسوَّل فقط لأن صديقتها أم شاهين تتسوَّل. فالفكرة التمعتْ في رأسها والتجربة راقتْ لها فقرَّرتْ أن تخوضها.
عادتْ أم يوسف ذات يومٍ من جولة تسوّل سريعة قامتْ بها في السوق ختمتها بزيارةٍ لسلمى، وما إن دخلتْ بيتها إلا وشعرت بحركةٍ غير طبيعية تنبعث من خلف باب المجلس. فتحتهُ بشكلٍ مفاجئ لترتطم بالطامَّة التي كانت تنتظرها بالداخل: جارتها وصديقتها أم شاهين عرفتْ طريقها إلى فراش زوجها.
ثارتْ أم يوسف كالموج الذي ارتدَّ خاطفًا إلى الشاطئ، وانهالتْ عليها بسيلٍ من الشتائم، دون أن تجد أيّ ردٍّ منها. خارت قواها، فالصدمة كانت أقوى منها، وهوَتْ على كرسي أبنوسي قديم في مقدمة المجلس، وأم شاهين تضاءلتْ في مكانها دون أن تَنْبِسَ بِبِنْتِ شَفَةٍ، والصمتُ أطبق على الزوج الذي أطرق صاغرًا.
لم تَخبُ نار أم يوسف، وتولَّدتْ لديها رغبة جارفة في الانتقام. نزعتْ المفتاح من الباب وأقفلته عليهما من الخارج، وراحتْ تستغيثُ بسلمى وتطلب منها الحضور معها إلى بيتها كي تشهد على الواقعة، لكنها اعتذرتْ وقلبها يتواثب ذعرًا.
قضية التسوّل تراجعت إلى الظل بعد أن كانت تتصدر أحاديث النساء لفترة، وذاع النبأ الجديد في الحي الشعبي الضيّق، وتسرَّب بين بيوته المتداعية، حتى وصل لأبي شاهين الذي تكوَّم في مكانه من هَول الصدمة، وأصبح بين خيارين أحلاهما مُرّ، إما أن يُسرِّحها، أو أن يبتلع الأمر حفاظًا على مشاعر أبنائه وبناته وحتى لا يُكشف لهم، وبعد تفكير مُضنٍ كمَنَ غيظه وانهزم أمام الخيار الأخير.
بعد تلك الواقعة، ضاق فضاء الحيّ بالعائلتين المتجاورتين، فآثروا الرحيل ووأد الفضيحة فيه، لكنهم غادروا وبقي البيت الذي يحتضنها شاهدًا، وبقيتْ قصتهم تُروى خلف جدران الحيّ وتجول بين أزقّته.
«تمَّتْ»
@raedaalbaghli