البيوت لا داخل لها، إنما هو الخارج فقط، المساحات تقلصت، وأصبح الإنسان بمقدوره أن ينظر إلى العالم من ثقب الباب، ولا يفوته الشيء الكثير، لذا فالخارج هو الحقيقة وما عداه مجرد وهم.
قبل أن يكون العالم كله في الخارج، كانت البيوت قلعته الحصينة، كان ينام وحيدا ولا ضجيج حوله، وإذا أراد أن يصرخ كان صراخه لا يتجاوز عتبة الباب.
أبناؤه الذين ولدوا في قلعته وكبروا تحت رعايته لم يألفوا الغرباء ولم يتعودوا على أحاديثهم، وكانوا يبصرون الأيام تنتقل من غرفة إلى أخرى، وكانوا يظنونها طائرا صغيرا أضاع الوصول إلى عشه، وكان الريش المتطاير منه، لا يحرك الرغبة عندهم في لمسه أو حتى الاقتراب منه.
لكن الوقت بارد، والعالم معتل النظر، لذلك لم يخرج ولم يتعلم تسلق الأسوار، وكلما حاول أن يرسل ذكرياته إلى الخارج أو يرسلها تهريبا كانت الحياة في أيدي الناس مثل وعول جبلية ليست في مرمى البصر.
قبل أن يتمرد على نفسه، ويخرج من كهفه الذي ظل فيه سنوات طويلة، كان إنسانه يفكر بالحياة ويعيش الحلم، لا يصنع أحداثه، بل هي التي تصنعه، لا يقاوم الأيدي التي تكتب له الحكاية، ولا الأقدام التي تخط له الطريق، ولا الشفاة التي تنبهه بالصخور التي تتساقط عليه.
لياليه خالية من رعشات الألم، وظلاله مسحولة. لكن لا أثر لها بين الناس أو بين أسمائهم التي يدفنونها في التراب.
لكن إنسان الخارج هتك ستر العالم ومزق ثيابه، وتركه عاريا على قارعة الطريق، فأصبح ما يروى منه متقدم بمراحل على ما يسمع عنه، وما بينهما يقال أن العالم قد تطور وأصبح أكثر تعقيدا، فكل جزء مرئي منه حدث قائم بذاته، ينشغل الإنسان به ثم يصنع منه رموزه وأساطيره التي يعتاش عليها لأزمان قادمة.
المرئي متغلغل في الحياة الصغيرة للإنسان، هذا ما يقوله الصدى الذي يحدثه سقوط القنابل على رؤوس البشر، سقوط المنازل والمباني الضخمة من أثر البراكين والزلازل، فالمرئي هو العالم وقد تحول إلى عين ضخمة في جسد وحش.
لا حد للعالم حين يتمدد، ولا حد لطموحه في غزو ما لا يرى، يحلم أن يعود إلى ماضيه، ويبعثه من جديد تحت أضواء ساطعة، وتحت عيون كاميراته، كي يتأمل ثم يتساءل ما الذي فاته من أحداث ولم يعتن بها حينما كان وحيدا ومعزولا عن الناس؟ ما الذي باستطاعته أن يعدل في قصصه حتى تستقيم مع ما يفكر فيه حاليا؟ فهل ننتظر مثل هذا اليوم يأتي بوصفنا أناسا مرئيين.