قبل أكثر من ثلاثة عقود حذرت أصوات أكاديمية وسياسية وإعلامية في الوطن العربي مما يمكن أن يسمى بزمن الميليشيا القادم. وتزامنت تلك التحذيرات مع قيام ما يسمى بالثورة الإسلامية في إيران، التي كانت من خططها بعد نجاحها على يد مفجرها آية الله الخميني، زرع ثورات مشابهة في البلدان الإسلامية، التي رأى الخميني في حينها أن كل القيادات في البلدان الإسلامية إما عَمِيلة لقوى الاستكبار العالمي كما كانت توصف في الخُطب السياسية الملتهبة، أو أن الحكومات في بعض البلدان لا تقيم الحكم الإسلامي الصحيح، الذي هو في زعم مفجري الثورة الخمينية المُتماهي مع نظرية الإمام الولي الفقيه! وكانت أول البلدان التي وُجهت إليها سهام ثورة الخميني دولة العراق، التي كانت في ذلك الوقت وبالرغم من المآخذ الكثيرة على النظام البعثي وقيادته فيها، كانت مستقرة، وتعيش حالة بناء، وازدهار اقتصادي، وتماسك مجتمعي. لكن الخميني ولحسابات شخصية، ولاعتبارات تتعلق بالعمر الذي كان قد تقدم به في ذلك الوقت قرر أن تكون العراق البقعة الأولى، التي يصدر لها ثورته الجامحة والمنفلتة. فتم استقطاب كل المعارضين للنظام في بغداد، خاصة ذوي المرجعيات العقائدية، والمذهبية إلى طهران، وقدمت لهم تسهيلات عسكرية ولوجيستية وإعلامية، حتى إن العالم العربي كله كان يلتقط إذاعة صوت الثورة الإسلامية في العراق، من كل مكان تقريبا في المنطقة العربية. وقُربت أحزاب دينية كثيرة واستخدم بعضها بطريقة معينة كما تذكر بعض المصادر مثل حزب الدعوة، والشيرازيين وغيرهم. النظام البعثي العائلي في بغداد حينها فهم بوضوح أن هذه الثورة تؤسس لإزالته، وهذا أثبتته بعض الكتابات المتخصصة حول الثورة الخمينية، وأفكار قائدها العجوز الغامض. فكانت الحرب الضروس بين الجانبين لثمانية أعوام كاملة. وعلى طريقة الغالب يقلد المغلوب أحياناً حلَّتْ الثورة الخمينية جيش الشاه كما حَّلتْ جهاز الأمن السري السافاك، الذي كان يعتمد عليه النظام قبل الثورة، واخترعت جيشا شعبيا لا يشبه الجيوش العسكرية والنظامية في الدول الحديثة، حيث يعتمد على خلايا ثورية في القرى والأرياف والنواحي وفي التنظيمات الإدارية والجهوية، ويخضع لسلطة الإمام مباشرة، ولا توجد لديه عقيدة عسكرية محددة، ويعتمد في إدارته وتنظيمه على درجة الولاء لقائد الثورة وللسائرين على نهجه!! حرب الثورة الخمينية مع العراق الدولة العلمانية والنظام المتماهي مع المحيطين العربي، والدولي إلى حد كبير آخر أمرين خططت لهما الثورة في إيران لبعض الوقت، الأمر الأول تصدير الثورة إلى أقطار عربية أخرى غير العراق، والأمر الثاني تأخر تشكيل ميليشيات عقائدية في الدول العربية على غرار ما يسمى بالحرس الثوري في إيران لبعض الوقت، حتى إن بعض المصادر تؤكد أن أول نمو لبذرة حزب الله في لبنان لم تتبلور إلا في مطلع ثمانينيات القرن الماضي. العراق كانت ومازالت وستظل هدفا إيرانياً إستراتيجياً والمطلوب احتلال العراق، والهيمنة على مقدراته، وقرار شعبه، وإلحاقه بفلسفة إيران الوجودية القائمة على ميثولوجيا الانتظار والعبث. من الأمور التي يفاخر بها العقائديون والولائيون اليوم فيما يسمى بالجمهورية الإسلامية في إيران أن أصبح نفوذهم في مقاومة القوى العظمى يتجاوز التراب الإيراني، وأن تهديد مصالح ما يسمونه في إيران بدول الاستكبار العالمي تهدد، وتضرب من ميليشيات الحرس الثوري الإيراني فرع بغداد، ودمشق!! بعبارة أخرى الثورة تحارب باتباعها، وتستخدم أدواتها المسلوبة الإرادة، والموالية بشكل أعمى للقيادات والرموز والمواقف الإيرانية. مما يطرح أمامنا سؤال: هل هذه الميليشيات الولائية خطر على البلدان العربية كما حذرت أصوات منذ عقود؟ مَنْ أراد أن يعرف الإجابة فعليه بتفحص البيان الأمريكي، الذي صدر في أعقاب استهداف قواعد للميليشيات الإيرانية على الحدود العراقية السورية، والذي ذكر بوضوح أن هذه الميليشيات تهدد مصالح أمريكية. هذا يعني بالضرورة أن هذه الميليشيات تهدد كل المصالح العربية، التي لا تنسجم مع المنهج والأسلوب الإيراني.
@salemalyami