لا يخفى على أحد ما يعيشه العالم اليوم من ثورة تقنية هائلة ليس لها نظير في تاريخ البشرية على مختلف العصور، ومن أكثر صور التقنية ذيوعا وانتشارا الهاتف المحمول وما تأبطه من خير وشر، ولا شك أن الذي جعله بهذا الشيوع والانتشار هو وجود وسائل التواصل الاجتماعي التي قربت البعيد الذي ليس له من البعد إلا اسمه وبعدت القريب الذي ليس له من القرب إلا اسمه، وبعد أن كنا نسمي أواخر القرن العشرين عصر السرعة نظرا لسرعة الاتصال والمواصلات أصبحت السرعة اليوم من شدتها لا يمكن قياسها، حيث إن التواصل بين الناس أصبح مباشرا وليد اللحظة مهما بعدت المسافة بينهم وهذا ما جعل وسائل التواصل قرية لشعوب العالم قاطبة بعقائدها وأفكارها وثقافتها على ما في هذه الثقافات أحيانا من تشابه حد التطابق أو تباين حد التناقض وأصبح مستخدم هذه الوسائل مطلعا على مختلف الثقافات والأفكار غثها وسمينها، وهذه الديمومة في متابعة وسائل التواصل وبشكل يومي جعلت مستخدميها عاكفين عليها حد الانقطاع لها مستمتعين بها حد النشوة بها. وكما أن المجتمع الافتراضي مشغل لكثير من الناس فكذلك المجتمع الواقعي حيث يكون الشخص في دوامة من الالتزامات والمسؤوليات من بداية يومه حتى نهايته في مشهد روتيني متكرر لا يتوقف أبدا، يومه كأمسه كغده تنحت عمره نحتا وتتصرم أيامه تصرما من حيث لا يشعر. وأنا هنا لا أدعو إلى عزل الناس عن مجتمعهم الافتراضي أو الواقعي على ما فيه وعلى أن سوادهم الأعظم غير محصن فكريا وعلميا من أن يتأثر ولو نسبيا بأفكار دخيلة. لا أريد عزلهم عن هذا الواقع مع أن الصمت فيه ذهب وفضة ولكني أدعوك أيها القارئ إلى أن تكون «مع نفسك» في «خلوة شرعية» لا يحضرها الشيطان يتسامى فيها فكرك وتعرج فيها روحك من الدركات إلى علو الدرجات لا يحضرها أي مشتت وبالأخص وسائل التواصل تمتثل فيها إلى عقلك امتثال المتهم فتبصر موضع قدميك، أين تقف من مسؤولياتك وواجباتك؟ فتلتفت خلفك محاسبة وأمامك تقويما ولتوجه لنفسك هذه التهمة أنت تعيش «سبهللا» ليس عندك مشروع تخدم فيه دينك وأمتك والمتهم هنا مذنب حتى تثبت براءته، قال مصطفى صادق الرافعي - الذي له من اسمه الكامل أوفر الحظ والنصيب - إن لم تزد شيئا على الدنيا كنت أنت زائدا على الدنيا، في هذه الخلوة استبن محيطك الأقرب من الناس. بسبر أغوارهم والتنقيب في أفكارهم فقد تجد عندهم رأيا سديدا أو حكمة بليغة أو ضالة قد يئست منها، لماذا نحن نزهد في الرأي والحكمة والصواب إذا جاء من القريب ونعظمه ونكبره إذا جاء من البعيد؟؟، فإن لم يكن ذلك فلا أقل من تفعيل «وسائل التواصل العائلي». في هذه الخلوة حاول اكتشاف نفسك فربما تكون أنت أجهل الناس بها، قال ألبرت أينشتاين: كل إنسان هو عبقري بشكل أو بآخر المشكلة أننا نحكم على الجميع من خلال مقياس واحد، فمثلا لو قيمنا سمكة من خلال مهاراتها في تسلق شجرة ستمضي السمكة بقية حياتها معتقدة أنها غبية. نعم نقب عن عبقريتك حد الاستقصاء واجتهد في إعمال الفكر وكد الذهن حد النحت وفتش عنها حتى يمل الصبر من صبرك فربما يكون هذا أعظم اكتشاف بشري، هب أنك في هذه الخلوة لم تبصر «موضع قدميك» ولم تكتشف «عبقريتك» فلا أقل من أن عقلك الذي أعياه هذا السيل الهائل من الأفكار والشبهات وذهنك الذي تفته المتابعات فتى أن يفئ إلى ظل ظليل يجد فيه بعض الراحة وينصرف فيها عن الغثائيات والغوغائيات، وإرضاء لنفسك وإيهاما لها أنها على ثغر عظيم سمها «استراحة محارب»، ولتكن هذه الخلوة والعزلة عن الناس عادة لك تلجأ إليها بين حين وآخر تسكن إليها ولا تأنس بغيرها لعلك تجد فيها نفسك وتجني فيها من الفوائد والعوائد ما لا يخطر لك ببال.
JnFfmi@