هل الجمال علم؟؟ هل يمكن أن ينقل علم الجمال من العين إلى العقل لتبهره بصمت؟؟، هل يمكن للعين لغة تؤثر بها على نفسية الرائي؟؟، هل ينتقل العلم بصريا ويتوارث في المجتمع؟؟ هي تساؤلات بسيطة دارت في ذهني عندما كنت أفكر في عظمة وروعة ودقة عمارة عصر النهضة، ما سرها؟؟ لماذا تبهر الكل بدون استثناء، من العالم المختص إلى الطفل الصغير، لماذا نقف أمامها بدون ملل نتأمل فقط، ونعود إليها مرة أخرى لنقف بنفس المكان لنستمتع فقط. نعم.... إن جمال عمارة عصر النهضة مرتكز وبقوة على علم، علم اكتُشف حينها ومزج بين علم البصريات وعلم الرياضيات وأظهر العمارة بالكيفية الفنية، التي لاتزال صامدة تبهر بجمالها الأجيال. امتزج في جمالها علم الرياضيات وعلم البصريات لتنتج المنظور الخطي، الذي لم يعرفه إلا القليل ولم يمارسه ويبرع فيه إلا الأقل. يؤكد بعض الباحثين أن الحضارة الإغريقية ومن بعدها الحضارة الرومانية اعتمدتا على هذه العلوم البصرية والرياضية وحددوا مقاييسها الجمالية، واحتفظت آثارها المعمارية بهذه اللغة البصرية الخفية، التي أعاد استنتاجها برونوليسكي ووثقها من بعده ألبيرتي في القرن الخامس عشر الميلادي، لتؤثر على نتاج عصر النهضة، حيث امتزج فن العمارة والعلم في بوتقة واحدة. فمن الحضارات الكلاسيكية المندثرة استطاع برونوليسكي المتأمل لآثار الماضي الكلاسيكية أن يتوصل إلى فكرة نقطة التلاشي وفتح أبواب المنظور الخطي المغلقة، واستطاعت آثار الماضي العريق بما تحمله من علوم أن تغير في نتاج الحاضر الثقافي حينها، فعادت الحركة الإنسانية اليونانية الأصل، التي تبناها عصر النهضة وأساس فكرها بأن الكون يتمحور حول الإنسان، وأن المعرفة تتمحور حول حواسه.
عرّف ألبيرتي المنظور الخطي بأنه نتاج تقاطع مستوى وهمي مع مجموعة الأشعة البصرية المكونة للهرم البصري، وقد أثر المنظور على عمارة عصر النهضة مباشرة، وتحديدا العمارة الدينية وتطور لينتج عمارة إنسانية فريدة ومتميزة، سخرت الفن والعلم لترسل أكبر قدر من المعلومات البصرية، التي تؤثر على المشاهد وترتبط بمشاعره وتجعله يتأثر ويتفاعل معها، ويقف منبهراً أمامها. عمارة أنتجت لتؤثر على كل مَنْ يراها، فنجد فيها عناصر الفراغ كلها تعمل لتخدم فكرة المبنى الأساسية التي أرادها المعماري، فنتاج عصر النهضة غني بالمعاني والفلسفة، التي مازالت تحلل وتدرس لما تحمله من دلالات ورمزيات، إن إلقاء نظرة إلى سقف كنيسة السيستين Sistine Chapel في الفاتيكان بروما، الذي صممه مايكل أنجلو، أو إلى خلفية مذبح كنيسة سانت ماريا بريسو Santa Maria presso San Satiro في ميلانو، الذي صممه برامنتي تكفيان لفهم عمق اندماج الفن والعمارة لإنتاج جمال عميق لم يسبق له مثيل.
وفي هذا العمق في الإنتاج ارتباط بشخصية معماري عصر النهضة، الذي جمع بين الفن، والنحت، وكان عالما بالرياضيات، وعالما في البصريات، قد ينغمس تارة في تشريح الجسم البشري لينتج رسومات بشرية واقعية، وقد يخترع الآلات بقوانين الميكانيكا، كبرونوليسكي وبالاديو وليوناردو دافنشي، ومايكل أنجلو وغيرهم من مبدعي هذا العصر.
نعم للجمال علم يكمن وراءه ويستطيع الوصول إلى العقل بلغة بصرية صامتة دون قيود عمرية أو علمية أو ثقافية. وضعت لجماليات التصاميم الكلاسيكية قوانين كالتناظر والتوازن، والتكرار والإيقاع، النسب والتناسب. وبعض التصاميم الحديثة ورغم خلوها من أي تفاصيل تقنن إلا أنها تحمل جمالاً غامضاً لم تكتشف قوانينه بعد، ولعل جمالها يكمن في عشوائيتها أو في خلوها من أي تفاصيل. العلوم سلسلة من الاكتشافات، التي لا تنضب تتأرجح ما بين تأملات لماضٍ انتهى، أو تخيلات لمستقبل لم يأت.
فيسبوك: Fatima Mustafa Reda