Fatima Mustafa Reda
تبنى المساجد في عصرنا متحررة من أي حدود تقنية أو مادية، فتنوعت أشكالها منتمية إلى بيئتها تارة ومفصولة عنها تارة أخرى. لم يكن هذا حال المساجد في السابق وإن تثاقفت، ففي حينها كانت العمارة تعبيرا صادقا عن بيئتها وثقافتها. فتجلى في المساجد التاريخية مبدأ التنوع ضمن الوحدة، وتنوعت أشكال عناصره من مآذن وقباب وقناطر لتبرز خصوصية كل منطقة جغرافية بتراكماتها الثقافية، ووحدة المبادى الهندسية التي جمعت هذه العناصر المعمارية كمبدأ التكرار والإيقاع والتناظر. فمن المساجد العباسية الأفقية الضخمة بمناراتها اللولبية، إلى المساجد المغولية ذات القباب البصلية الشكل وقناطرها المدببة، إلى المساجد العثمانية ذات القباب المتدرجة ومناراتها التي تقف برشاقة بحدة واضحة في أفق المدن العثمانية. فالوحدة التي ميزت النتاج المعماري للحضارة الإسلامية تاريخيا هي اللغة البصرية التي تقرأها العين بصمت لتدركها العقول، فحروفها وكلماتها واضحة. إن وضوح الدلالة احتياج مهم لإنتاجنا المعماري. ولعله يتوجب علينا كمعماريين أن نضع أساسيات هذه اللغة البصرية الجديدة التي تتلاءم مع عصرنا. ونوفر أساسيات اللغة والمبادئ التي توحد الإنتاج ضمن تنوعه الشكلي والثقافي.
ظهرت العمارة الإسلامية في القرن السابع الميلادي، في منطقة جغرافية بعيدة عن الحضارات الإغريقية والرومانية في أوروبا ومعزولة نسبيا عن غيرها في الشرق القديم، في بيئة تهيمن الصحراء القاحلة، برمالها وخطوطها المتموجة التي ترسمها سموم الرياح عليها ولا يفصل بين أشعة الشمس الحارقة وأرضها الذهبية إلا قلة قليلة من النخل وشجيرات أخرى في بعض الواحات المعزولة. فكان بناء أول مبنى مخصص لأداء شعائر هذا الدين بإشراف نبي الأمة ﷺ مسجد سقيفة، بسيطا في مواده وتصميمه، لم يكن هناك تصور قبلي للشكل النهائي للمسجد، ولم يكن هناك رمزيات أو وسائط لتعليم المجتمع تعاليم الدين الجديد، أو تصوير قصص السابقين أو الجنة والنار كحال الكنائس المسيحية التي غطت جدرانها تصاوير القصص والشخصيات، ولم يعتمد الدين الإسلامي في التعليم إلا على الكلمات وفهمها، وترك خيال كل شخص يصور ما يسمع أو ما يقرأ بطريقته. ولعل هذه المرونة في شكل المسجد قد ساهمت بشكل كبير في تنوع الشكل في إنتاج الحضارة الإسلامية لاحقا، وهي البصمة التي ميزته. ثم بانتقال الخلافة إلى الدولة الأموية في دمشق، تغيرت العوامل الجغرافية وكذلك العوامل التاريخية. ودخل الإسلام في علاقات تبادل وتجاور مع منتجات الدولة البيزنطية المسيحية وتراكمات حضارية إغريقية ورومانية، فقد استفاد الأمويون مما وجدوا في أرضهم الجديدة، فاصطبغت العمارة والفنون الإسلامية في عهدهم بصبغة بيزنطية تبرز في أهم صروح هذه الحقبة وهما الجامع الأموي وقبة الصخرة، فبقيت العمارة الأموية حالة هجينة بين عمارة ناشئة لم تتشكل ملامحها بعد وبين تراث بيزنطي راسخ. وفي العمارة الأموية في بلاد الشام اختفى مسجد السقيفة والذي أسسه الرسول الكريم في مسجده في المدينة المنورة، وبانتقال الخلافة إلى الدولة العباسية إلى العراق الصحراوية كشبه الجزيرة العربية، وبميراث حضاري عريق، تمثل في الحضارة السومرية والبابلية والآشورية وغيرها، وأرض كانت موصولة للتثاقف مع من حولها من حضارات أخرى كالحضارة الفارسية والهندية، هنا عاد شكل المسجد ذي السقيفة الأفقية إلى الظهور، وما زال جامع المتوكل في سامراء الأكبر في تاريخ العمارة الإسلامية جامع سقيفة وهو دلالة على نوع البناء الذي ستتخذه العمارة الإسلامية في عمرها المبكر آنذاك. هكذا كان التنوع ضمن الوحدة في المساجد التاريخة، تأثير العوامل الجغرافية والتاريخية والثقافية على التنوع الشكلي للمساجد. إن كان هذا نتاج التنوع ضمن حدود العوامل المؤثرة حينها، فماذا سيكون نتاجه الآن؟