أما فلاسفة الإغريق، فالأمر يُعد أكثر حرية، فـ"سقراط" الذي آمن بالعقل وقدرته على التمييز بين الحق والباطل، يرى أن الذات هي المحرك للكون والدافع لمعرفة مسببات الأشياء والوجود، فهي لديه باختصار "الوعي والإرادة" اللذين استطاع بهما الإنسان السيطرة على الكون، غير أن تجرعه للسم وانتحاره جعل تلميذه "أفلاطون" يذهب بعيدًا عن الواقع المؤلم الذي رآه؛ لتكون الذات نخبوية مثالية تقطن مدينته الفاضلة، وتنتمي لعالم الأفكار، فلا قدرة للإنسان العادي على الابتكار أو الإبداع بها، ليعود تلميذه "أرسطو" ـ مؤسس علم المنطق- بالذات من عالم المثالية والخيال؛ لتكون هي "الإدراك" للواقع.
ولم تقف المحاولات المتتابعة لاكتشاف تفسير منطقي لصوت الضمير الداخلي الباحث عن الذات في الإنسان، الذي جعل نيتشه "Nietzsche" يقول: "كن نفسك! فكلّ ما تفعله الآن وتفكر به وترغبه، كل ذلك، ليس أنتَ".
ليأتي "سيغموند فرويد" Freud فيجعلها على ثلاث ذوات: "ID أو الـ هو": مكمن الغرائز والدوافع الفطرية التي تُبقي الإنسان على الحياة، وثانيها: "الأنا" الذات الزائفة EGO (Edge God Out)، وهي المكون النفسي، والمتحكم بالأفعال الإرادية التي توازن بين "الهو" والذات الثالثة: "الأنا العليا superego" التي تمثل الضمير أو السلطة الداخلية الاجتماعية ومكمن التقاليد والأعراف والعادات والمعتقدات.
ولا غرابة فيما نجده من تباين التأويلات، والاختلاف على مدى الحضارات، فلا الأول بأعلم من الثاني ولا الثالث بأبعد من سابقيه، وهم في فلكها يدورون، وبخفي حنين يعودون.
ليبقى السؤال :"من أنا" معلقًا بين سماء الإرادة وأرض الإدراك.
ذلك السؤال الذي لا يكاد يكون المتأمل -في حالة صفاء أو تشتت- حتى يجد نفسه -بوعي أو بغيره- أمامه، ولا يملك زمام جوابه، ويهيم به الخيال في غياهب تلك الذات، والروح التي تسكن الجسد، وفيما وراء النبض والنّفس، وفيما يحيطها من أهل وصحب وقريب وبعيد، وعالمٍ من المخلوقات والكائنات، حتى يفقد السائل سؤاله، فلا يجده، فضلا عن جوابه، فيهرب منه إليه، دون أن يلاقيه.
ومَن أبحر بتأمّله، ابتعد عن شاطئه بقدر سباحته، أشبه ما يكون بالكنز المفقود، أو كالسراب كلما اقترب منه أيقن ببعده.
فهل يا تُرى سنظل نراود ذلك السؤال عن نفسه أبدًا!
أم أننا سنلتقي بجوابه شغفًا؟ ولو بعد حين، وأرجو أن يكون في المقال التالي شيء من البيان المبين.
@nayefcom