n إن مياه الأمطار بحاجة لإناء يحملها ويحفظها. التربة الطينية لجبال الحجاز والسراة كانت هي الإناء المهم لحملها وحفظها، وتوظيفها بشكل طبيعي وفاعل. وظلت تغذية المياه الجوفية وظيفتها الأهم.
n هل ستدفع بيشة وما بعدها من مناطق ثمن خسارة التربة الطينية لسلسلة هذه الجبال؟ هذه التربة التي حملتها السيول دفنت الفجوات بين الجبال على امتداد طريقها شرقا، حولتها إلى سهول عظيمة منبسطة، وكانت تنقل الماء على سطحها إلى المناطق الداخلية، وأيضا عبر جوفها بطرق لا نراها لكن نحس بوجودها، وقد أثبتتها النظريات العلمية الجيولوجية والجغرافية.
n ومع اقترابي من مدينة بيشة كنت ألمح الجبال السمر الخالية من أي غطاء نباتي وتربة، كانت صخرية وجرداء، وكأن أحدهم اجتث كل شيء كان حيا تحمله. هنا تذكرت موت شجر العرعر في الشريط المطير من جبال الحجاز والسراة، وكان يشكل حوالي (70) بالمائة من غطائها النباتي. موت يحمل نتائج سلبية على البيئة وأجيالنا القادمة، وحتى على بيشة بوابة الماء.
n كنت قد تحركت من قريتي بمنطقة الباحة، نحو بيشة، من ارتفاع (2116) مترا عن سطح البحر. في الطريق شاهدت بداية الأودية وكانت عبارة عن مسارب ضيقة وأخاديد بين الجبال عند هذا الارتفاع. سرعان ما تحولت إلى مساحات منبسطة بعد أن دفنت التربة الطينية قواعد الجبال وسفوحها. وجدت بعضها لم يبق منه سوى نتوء على سطح هذه السهول.
n كانت السيارة تتقدم نحو بيشة عبر قرى وبلدات تاريخية متناثرة على حواف الأودية، وكانت لشخصي مجهولة الاسم في ظل غياب اللوحات التعريفية والإرشادية. لكن وجدت جميع التوسعات العمرانية الحديثة والطرق قد احتلت بطون الأودية في تحد صارخ للسيول الغائبة. هل وصل الناس إلى قناعة بأن خطر السيول قد زال وتوقف بعد احتجابها وغيابها خلال العقود الماضية؟ أليس هذا التصرف تطاولا ومغامرة لاحتلال مجاريها وطرقها التي رسمتها عبر القرون؟ هل ماتت حكمة الحذر لدى الناس؟ أم أنه الجهل بالعواقب وحقوق السيول في كامل مجاريها؟
n فجأة وجدت سيارتي تدخل مدينة بيشة عبر أطول جسر رأيته في حياتي، وقد يكون الأطول على مستوى المملكة. جسر يربط بين طرفي وادٍ واسع العرض. وجدت مدينة بيشة تحتل وتتوسع داخل مساحته. وجدت بعض أحيائها الحديثة منتصبة في جزء من مساحته، وكأنها تنتظر مصيرها مع السيول. هل هو تهور أم سوء تخطيط؟ أم الاثنان معا؟ أم أن هذا هو الخيار الوحيد أمام التوسعات العمرانية؟ أسئلة كان يثيرها وضع يوحي ويقول.
n عبرت بسيارتي وكأني أعبر إلى عالم جديد. نظرت يمين الخط الأسفلتي المحمول على صبات خرسانية، ثم نظرت يساره أيضا، فجاءني مخاض ولادة التساؤلات الضخمة والرهبة من المستقبل المجهول، مقارنة بالماضي القريب قبل توقف السيول الهادرة التي جعلت من بيشة موطن الماء وبوابته للمناطق الداخلية عبر التاريخ. ويستمر الحديث بعنوان آخر هو السادس.
twitter@DrAlghamdiMH