غير أن مشهد طالبان مختلف تماما من حيث الزمان والمكان. ففي القرن الواحد والعشرين تبدو تلك المشاهد (الكاريكاتورية أحيانا) مع ما يرافقها من انطباعات أو تعليقات (قد تكون جارحة أحيانا) خارج نطاق العصر. فالمقتحمون الجدد هم من أبناء البلاد ذاتها، وليسوا غزاة من الخارج. إنهم نتاج داخلي لبلدهم. إنهم نفس القوم، الذين حاربتهم الولايات المتحدة واختفوا عن الأنظار ليعودوا بعد عشرين عاما بعد أن كاد العالم ينسى حقيقة وجودهم. وقد عادوا بأشكالهم ولباسهم وهيئاتهم، التي عرفهم العالم بها تماما كما لو كانوا قد غادروا بالأمس. ويبقى مشهد المواطنين الأفغان -من غير أبناء طالبان- وهم يتسابقون مع الطائرة من خلفهم للصعود عليها ومغادرة البلاد خوفا من أبناء جلدتهم مليئا بكل الرمزيات. وسيبقى هذا المشهد محفورا في أذهان كل مَنْ رآه وفي ذاكرة التاريخ. وهنا يفتح الباب على مصراعيه أمام سيل عرم من التساؤلات عما حصل وأسبابه ومآلاته.
هذا عن الزمان أما المكان فلا غرابة البتة. الحديث هنا عن بلد هو إلى الفسيفساء الاجتماعية المتعايشة حينا والمتحاربة حينا آخر أقرب منه إلى أن يكون دولة واحدة متجانسة ولعل هذا هو بيت القصيد في التكوين السياسي والاجتماعي لهذا البلد. أفغانستان موزاييك من عرقيات مختلفة، تتحدث لغات مختلفة، وتعتنق مذاهب مختلفة للإسلام، بالرغم من بقايا جيوب أقليات في أقاصي جبالها، التي تلامس عنان السماء. وإذا ما أخذ البعد التاريخي للبلاد في الاعتبار منذ وفادة البوذية إليها في الألفية الأولى قبل الميلاد، إلى حملات الإسكندر المقدوني، إلى مساهمة البلد الكبيرة في الحضارة الإسلامية، إلى تأثيرها المتكرر في محيطها الجغرافي لسهل على المرء تفسير ذلك المشهد السوريالي اليوم.
ما حدث في أفغانستان زلزال سياسي بالمعنى الدقيق للكلمة. وسوف يقف المحللون الإستراتيجيون والمؤرخون والأكاديميون طويلا لتفسير كنه ما حدث. وبعيدا عن الاستعجال في الاصطفافات السياسية تجاهه يبرز إلى الواجهة ذلك الاهتمام الكاسح بالحدث في الإعلام، الذي هاله ما رأى، حيث انفرد الإعلام الغربي، خصوصا بالحدث في محاولة لمواكبته ومعاينته، ومن ثم فهمه.
مقابل هذا الهيجان الغربي تجاه الحدث، هناك بلد مجاور لأفغانستان (على الخارطة فقط) وعلى هول ما جرى بدا وكأن الأمر لا يعنيه، وكأن الأحداث تجري على كوكب آخر. الحديث هنا عن الصين التي اكتفت بتصريح مقتضب من خارجيتها تؤكد فيه تفهمها لكل ما يجري في ذلك البلد الجبلي الصعب المراس، واستعدادها للاعتراف بالوضع الجديد في أفغانستان. وضمن هذين الموقفين المتناقضين للغرب المتباكي على أحلام كان قد نسجها على منواله والصين العاملة بصمت ودهاء خلف الكواليس سوف يتحدد ليس مصير أفغانستان فقط، بل العلاقات الجيوسياسية في وسط آسيا وربما العالم ككل، وعندها يمكن الحديث عن تحول المشهد من السوريالية إلى الواقعية. وعساها أن تكون واقعية تعود بالخير على هذا البلد الجبلي الأشم الزاخر بالثروات وبالقيم والثقافة، الذي لم يعرف الاستقرار لما يقارب نصف قرن. لقد آن لهذه البلاد أن.........تستريح.
[email protected]