بداية، لا بد من الإشادة بالعملية التعليمية، التي أنتجتها الدولة بدءا من تعليم البنات الذي كان موضع معارضة من قبل البعض وصولا إلى برامج الابتعاث، التي استمرت لعقود وصولا إلى التعليم عن بُعد وانتهاء باستئناف العودة إلى المدارس حضوريا هذه الأيام بعد انقطاع قارب السنتين. هذه معالم يشار إليها بالبنان في الحديث عن العملية التعليمية لدينا، وهي علامات فارقة على سياسة تعليمية ناضجة وطموحة.
غير أن أي عملية تنموية لا بد أن تقابل بعدد من الصعوبات، وهذه من مسلمات العمل التنموي، ويأتي في مقدمة تلك الصعوبات الأساس النظري، الذي تستند عليه العملية التعليمية. لماذا نعلم؟ لماذا نرسل أبناءنا وبناتنا للمدارس؟ أهو لحب المعرفة أم للحصول على وظيفة؟ بين هذين الجوابين (المتناقضين حينا والمكملين لبعضهما حينا أخر) تكمن الإجابة، التي يمكن في ضوئها رسم سياسة تعليمية تحتذى.
ليس هناك من إجابة ناجعة على هذا السؤال، وهي تختلف باختلاف الزمان والمكان، فهناك مَنْ يؤكد أن حب المعرفة مقدم على سوق العمل، وهناك مَنْ يرى العكس. يحتج أصحاب المعرفة بأن المواطن المتعلم المستنير المزود بسلاح العلم عون للتنمية والدولة وهو كفيل بأن يعيل نفسه وأسرته اقتصاديا. الفرد المتعلم مبادر، قيادي، وليس عبئا على الدولة، بل إنه معين لها. أما أصحاب سوق العمل فإنهم يضعون التحصيل المادي والأمان الوظيفي شرطا أساسيا لأي عملية تعليمية، وهم يقدمون العمل الإداري من قبل المؤسسة على الحافز الفردي. وبعيدا عن الخوض في وجهتي النظر هاتين إلا أنه بالإمكان التوفيق بينهما. فبإمكان العملية التعليمية أن تكون على درجة من الإتقان والجودة تجعل من الذهاب للمدرسة تجربة ينتظرها الطلبة بكل شغف. إن أساس نجاح العملية التعليمية مرتبط بمدى تعلق الطلبة بها، بمؤسستها، بموظفيها، بمعلميها، بفصول الدراسة، براحة المكان وبتوافر الوسائل التعليمية فيه. ومتى ما تحقق ذلك تفوق الطلبة وأبدعوا وضمنوا الحصول على وظائف في سوق العمل، الذي سيتطور هو ذاته بتطور مخرجات طلبته. وبهذا يتم جني كلتا الحسنيين.
إذا كانت المجتمعات تختلف فيما بينها في العملية التعليمية، فإن مرد ذلك إلى نظرة المجتمع ذاته للتعلم. وهنا يحدث الفارق بين مجتمع وآخر بين دولة وأخرى. وتفيدنا التجارب بأن دور الأسرة مركزي في هذا الجانب. الأسرة عون للدولة في التعلم. وهنا يكمن الفارق بين عملية تعليمية ناجحة وأخرى متعثرة. التعلم مطلب فطري، ومتى ما تم التعامل معه على هذا الأساس سهل على المؤسسة تعليم طلبتها وأحرز هؤلاء قصب السبق في العلم والمعرفة ومن ثم في الاقتصاد والأمن الوظيفي. هنا يصبح التوظيف وما يتبعه من نجاح اقتصادي وأمان وظيفي تحصيل حاصل. وبمراجعة بسيطة للتحولات العلمية الكبرى في تاريخ العلم والاكتشافات نجد أن الدافع الذاتي لدى الفرد وحب العلم والتجربة هو ما قاد دوما إلى النجاح قديما وحديثا. هنا يبرز دور الفرد ذاته وأسرته في التعلم والبناء عليه، وتأتي المؤسسة التعليمية فقط لتكمل المهمة، التي لا يمكن لها تحقيق نجاحات كبرى في مخرجاتها بدون الاستعداد الذهني لدى الطلبة، وهو ما يؤكد مرة أخرى أن مبدأ طلب المعرفة مقدم على مبدأ التوظيف.
إن التركيز على متطلبات سوق العمل -وهو الاتجاه الغالب لدينا- يحيل المدارس والجامعات لدينا إلى مجرد «مؤسسات توظيف» وليس مؤسسسات تعليمية تزود الطلبة بالمعارف الأساسية في حياتهم وحياة أمتهم وشعوبهم. التعليم في أي دولة هو انعكاس مباشر لنظرة المجتمع ومؤسساته للعلم والمعرفة وهي نظرة حضارية في المقام الأول.
[email protected]