بالنسبة لي لقد أعطت تلك الكلمة ملامح موسوعية المظفر نفسه، وعمق مسيرته العلمية والثقافية، ما جعلني أنشدّ له لأسعى بعدها بمتابعة ما يمكن الوصول إليه من تراثه الثقافي، لأتشرّف بعدها بالتتلمّذ عليه في مجموعة من مواد علم القانون في (الجامعة العالمية للعلوم الإسلامية) بلندن، فكان بحقّ العالِم المتبحّر والمربّي الموهوب.
ووفاءً لحقّ التتلمّذ عليه أسجّل انطباعاتي العامّة حول جانب من شخصيته بتناول ثلاثة جوانب بارزة جعلت منه أحد الأعلام الموسوعيين المميّزين في عصرنا:
الجانب الأول: العلمية الجامعة للقديم والحديث
بتتبّع النتاج العلمي والثقافي للدكتور المظفّر يُدرك وبسرعة أنَّ الرجال أحد تلكم القلّة، الذين اتّسموا بالموسوعية في العلوم القديمة والحديثة، فنتاجه يدلّل على تمكّنه من الاتجاهات المحدثة بجانب مكنته من الاتجاهات القديمة، ويظهر ذلك بجلاء في الهاجس، الذي عاشه في بحوثه أعني به هاجس البحث المقارَن، خصوصًا بين القديم والحديث في الآراء.
إنَّ لتبنّي المنهج المقارَن متطلّباته، التي ربما لا يقدر عليها سوى واسع الاطلاع الواثق من اطلاعه في مجالات المقارنة، وهذا ما بدا في بحوث ومحاضرات فقيدنا المظفّر، فالعَلَامة الفارقة في الحياة العلمية للمظفّر هي التحاقه بكلية الفقه، التي أسسها عمّه محمد رضا، فكان ضمن خرّيجي دفعتها الأولى هذا بالإضافة إلى إكماله لمرحلة الماجستير في جامعة بغداد في علم القانون وبعدها في جامعة القاهرة في مرحلة الدكتوراة، ثم تعيينه أستاذًا في عدد من الجامعات منها جامعة الملك عبدالعزيز في مدينة جدّة، فهذا التدرّج الأكاديمي كان الرافد لبناء ثقافته في العلوم الحديثة.
الجانب الثاني: اللّغة الموزونة بين البساطة والعمق
ليس من الضرورة أن يجتمع العلم والقدرة البيانية في كل شخصية علميّة، فكم من العلماء الذين لا يقدرون على إيصال أفكارهم بوضوح مع الحفاظ على عمق الفكرة، فاللغة الموزونة بين البساطة والعمق خيط رفيع تحتاج ممارستها إلى مهارة عالية.
الجانب الثالث: الأسلوب التربوي الجاذب
مما قد يقع فيها العديد من المتخصصين هو تضخّم ذواتهم العلمية أمام المتلقّي من طلابهم وغير طلابهم وربما من غير قصد، وهذا التضخّم له دوره السلبي في إضعاف أثر العلم في نفوس المتلقّين، ولكن إذا ما قام العالِم بتوظيف معارفه الواسعة والمتعددة لخدمة طلابه والرقي بهم لبناء شخصياتهم العلمية وتجاوز العقبات المواجهة لهم فيكون العالِم التربوي.
برز لي في محاضرات الأستاذ المظفّر هذا التوظيف الرائع، الذي يأخذ بأيدي طلابه إلى حيث أراد لهم من مستوى علمي.
هذه جوانب ثلاثة أجدها شواخص مهمة في شخصية الدكتور محمد المظفّر (رحمه الله تعالى) جعلت منه علمًا من أعلام هذا العصر.
وأخيرًا، أدعو المتخصصين إلى دراسة ـ وبشكل مكثّف ـ شخصية هذا العَلَم البارز في بنائه العلمي وتركته المعرفية لتطوير واقعنا العلمي بما يتناسب وحركة العصر.