لكن روحه ومبادئه ستبقى حية في نفوسنا عاما آخر.
ذهب اليوم الوطني وبقيت ذكراه.
ذهبت إحدى الحسنيين وبقيت الأخرى.
ذهب اليوم الوطني وبقي عام الخط العربي.
ارتبط الخط في أذهاننا بتلك المادة غير الإلزامية في جدول الحصص الأسبوعي، وبكتيب عمل اقتصر على خطي النسخ والرقعة. قلة هم من الطلبة والمعلمين، الذين عملوا بجد بذاك الكتيب، وكأن الخط مادة تحصيل حاصل ليس إلا.
لننظر للموضوع من منظار علمي وتاريخي وتربوي. لكل أمة من الأمم والشعوب والحضارات بصمات خاصة بها مثل بصمات الأصابع، التي لا تشابهها أي بصمة أخرى. هذا هو حالنا مع كثير من تراثنا الحضاري، والخط العربي هو البصمة الحضارية الفنية الأبرز لكل الدول الواقعة ضمن ما يعرف اليوم بالعالم الإسلامي، والعالم العربي منه في المركز.
والحديث عن بصمة الأصبع يحيلنا إلى اليد التي تمسك بالقلم، لتخط ما يمليه عليها فكرها، بلغتها لتنثر ما جادت به شعرا ونثرا، وبكل صنوف البلاغة لتعبر عن فكر صاحبها. هكذا وبكل بساطة يوحد الخط بين هذه الملكات الأربع المسؤولة عن مجمل الإنتاج الحضاري للعرب والمسلمين كافة.
والعلاقة بين الكلمة المكتوبة والعلم أو الفكر، الذي تحمله واللغة، قديمة قدم كل حضارة. وقد استهلت الحضارة العربية الإسلامية مسيرتها الحضارية بكلمة «اقرأ» كما نزلت على سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم) مع كل ما تحمله تلك الكلمة من رمزيات تعلي من شأن كل ما له علاقة بالعلم والفكر قراءة وكتابة.
تاريخيا، انظر ماذا فعلت أمم الأرض بالخط العربي. لننظر أولا إلى ما فعله ابن مقلة وابن البواب وياقوت المستعصمي، في بلاد الرافدين، في عهد الدولة العباسية، من نقل الكتابة إلى فن مكتملة أركانه. وانظر إلى ما أضافته الأمم الإسلامية من الترك، والهنود، والعجم، والأفارقة، وكل مَنْ دان بالإسلام يوما ما، من إضافات جليلة للخط العربي. يكفي أن تنظر فقط إلى الخط الصيني في شمال غرب الصين، لترى العجب العجاب في المزج بين فن الريشة الصيني وفن القلم العربي.
قليل منا مَنْ سمع بمدرسة الحروفية وهي حركة فنية ازدهرت في السبعينيات والثمانينيات من القرن المنصرم أدركت البعد الجمالي والحضاري للخط العربي، فأسست توجها فنيا كاملا يقوم على الخط. وانظر إلى ما قاله الرسام الإسباني بيكاسو عن الخط العربي: «إن أقصى ما وصلت إليه في فن الرسم وجدت الخط العربي قد سبقني إليه منذ أمد بعيد».
وسط كل هذا الجو مما يمكن تسميته باللامبالاة تجاه الخط، آن لنا هذا العام أن نتفاءل. انظر إلى أيقونة عام الخط العربي مكتوبة غير منقوطة بشيخ الخطوط. إنك لتراها ترويسة فوق النسخة الرقمية لهذا المقال، وعلى بطاقات صعود الطائرة، وعلى لوحات الإعلان الضخمة في مداخل المدن، ولا تكاد تفارق عينيك في معقل مؤسسة الخط: وزارة الثقافة. إن الاهتمام بالخط العربي، الذي تبنته الوزارة لهذا العام لبادرة نوعية وخطوة عملاقة في النهوض بهذا الفن الأصيل. ولعل التوجه لإنشاء مركز الأمير محمد بن سلمان العالمي للخط العربي أول ثمار هذا الغرس. والأمل يحدونا كعامة وقراء وكل مَنْ مسك القلم، وكل مَنْ له صلة بالفنون البصرية أيا كان شكلها وبالدرجة الأولى في المجال التربوي أن يكون هذا العام مفصليا لاستكشاف عوالم من الإبداع الفني لم تكتشف بعد.
لنتخيل فقط أننا سمونا بالكتابة لدينا إلى مرتبة الفن. لنتصور أن كتابتنا وما تفرع عنها من فنون قد وصلت إلى درجة الفن. حينها عن أي إبداع نتحدث، وعن أي متعة بصرية نعيش، وعن أي إسهام حضاري يتوج هاماتنا؟.
[email protected]