ولكنني، أرى أن العفو والصفح، أفضل من الانتقام، قبل أن يكون ذلك من مصلحة الجاني، فهو من مصلحتي أنا الآخر.
هل ستصدقني حينما أحكي لك عن الإبادة الجماعية، التي حدثت فى دولة رواندا الأفريقية، عام 1994، التي سقط فيها أكثر من 800 ألف قتيل، وتم تشريد أكثر من ثلاثة ملايين داخل رواندا وخارجها في دول الجوار. لقد حدث كل ذلك خلال مائة يوم فقط.
بالطبع، لن تصدق ما سأقوله الآن، إن البلدة التي حدثت فيها كل هذه المجازر، والتي امتلأت ببحور من الدم، أصبحت الآن من أهم المقاصد العالمية للسياحة الخضراء، ورغم أنها بلد زراعي وليست بها موارد خام، ولكنها استطاعت مضاعفة الدخل القومي للفرد في أقل من 15 عاما. وارتفع متوسط العمر من 31 سنة فى 1995 إلى 64.5 سنة في عام 2015.
ولكن كيف حدث ذلك؟
لقد انتشر بين مواطنين هذه البلدة، أنه لا أمل في التعافي والإصلاح والتقدم، إلا من خلال العفو والصفح والمصالحة، وليس العقاب والانتقام.
ونتيجة لوعي الحكومة الرواندية، أعادت محاكم الجاكاكا من جديد، التي تسمى أيضاً بمحاكم العشب الأخضر، وهي أحد طرق تحقيق العدالة في المجتمع التقليدي، يتم جلوس الأطراف فيها بحضور شخصيات مؤتمنة من أهل المنطقة، ويصدر الحكم ملزما لجميع الأطراف، ميالا للمصالحة، ومكافأة المعترف بالذنب بتخفيف العقوبة.
السؤال الذي طرحته على نفسي، ماذا لو لم تنتشر ثقافة المصالحة والعفو والصفح بين أهل هذه البلدة، وظلت ثقافة الانتقام هي السائدة.
ما حدث من أهل رواندا ليس بالأمر الجديد، فمَنْ منا لا يعرف ما فعله الحبيب المصطفى -صلى الله عليه وسلم- أثناء فتح مكة المكرمة، حينما قال لهم: (ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء).
باختصار، إن لم تتذكر كل ما سبق، تذكر ما فعله الصديق -رضي الله عنه-، مع مَنْ تحدث عن ابنته أم المؤمنين «عائشة» -رضي الله عنها- بالسوء، وهو مسطح بن أثاثة، وهو ابن خالة الصديق، وهو مسكين لا مال لديه إلا ما يقوم الصديق بإنفاقه عليه، بعد أن نزلت هذه الآية الكريمة: (وَلَا یَأۡتَلِ أُو۟لُوا۟ ٱلۡفَضۡلِ مِنكُمۡ وَٱلسَّعَةِ أَن یُؤۡتُوۤا۟ أُو۟لِی ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡمَسَـٰكِینَ وَٱلۡمُهَـٰجِرِینَ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِۖ وَلۡیَعۡفُوا۟ وَلۡیَصۡفَحُوۤا۟ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن یَغۡفِرَ ٱللَّهُ لَكُمۡۚ وَٱللَّهُ غَفُورࣱ رَّحِیمٌ)، فقال الصديق: بلى، والله إنا نحب يا ربنا أن تغفر لنا.
@salehsheha1