والغريب أن هذه الجملة لا تتفق مع قوله سبحانه وتعالى: «ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ». ولا تتوافق مع قوله سبحانه وتعالى: «فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ». وثبت أنه عليه الصلاة والسلام قال: «المؤمِنُ الذي يُخالِطُ الناسِ ويَصبِرُ على أذاهُمْ، أفضلُ من المؤمِنِ الَّذي لا يُخالِطُ النَّاسَ ولا يَصبرُ على أذاهُمْ».
ولعل الصورة تتضح أكثر بضرب الأمثلة. فلو طبقنا هذه النصيحة والفكرة (اعتزل ما يؤذيك) برعونة على الحياة الزوجية لانهدمت الكثير من البيوت وتشتت الأبناء. ولو طبقنها على الأسر والأقرباء ما اجتمع منهم أحد!
ودعوني أرسم لكم صورة أكبر، حيث لو كانت هذه المقولة مقياسا على ما يحصل من مضايقات بين الزملاء أو مشاكل في العمل (سواء العام أو الخاص) لم يذهب معظم الناس إلى أعمالهم!!
وهذه المقولة بلا أدنى شك أكبر عذر للطالب، الذي يواجه صعوبة في أي مادة أو يكون المعلم أو الدكتور الجامعي شديدا وحازما في الدرس والواجبات والامتحانات.
والمشكلة الأعظم هي من طائفة المراهقين (وهم متواجدون بكثرة على مواقع التواصل الاجتماعي)، الذين سيستخدمونها كعذر للانعزال عن أهليهم وأقربائهم.
ومعظمنا يعلم من الخبرة الحياتية أنه لا بد من وجود بعض من الخلافات أو المشاكل حينا وحينا بين الأقرباء أو الأصدقاء، بل حتى بين الإخوة في البيت الواحد. فهل نقول لأفراد المجتمع: ارحل واعتزل؟! فبذلك لن يبقى بيت إلا واعتزل منه أشخاص! ومن هنا تصبح الحياة برمتها سلسلة من الرحيل والهروب والاعتزال.
وأما الجانب المشرق في المشاكل بأنواعها معرفة فضيلة الصبر. ومنها معرفة قوة العفو والصفح. ومنها تعلم النقائض، فلا فرح بلا حزن، ولا تصالح بلا خصام. ولا فرج إلا بعد ضيق. وقد قيل في الأمثال: «ما محبة إلا بعد عداوة».
ومن وجهة نظري، أن أول فكرة هي البحث عن الحلول، فإن لم يكن فالبدائل بشتى الوسائل والطرق. وأن نضع نصب أعيينا قوله سبحانه وتعالى: «فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا».
وحتى نكون واقعيين لا تنظيريين! نعم قد يكون هناك فراق ورحيل، ولكنه آخر الحلول وليس أولها. فلا يصبح الاستثناء هو القاعدة! لأن هذا قلب للموازين والمفاهيم وللمنطق، حيث الأصل أن لكل مشكلة حلا (هذا هو المبدأ) أما الاستثناء فهو (آخر الدواء الكي) يعني آخر الحلول هو الاعتزال والرحيل!
وأما أن تصبح نغمة تردد كثيرا على المسامع في مواقع التواصل الاجتماعي، ويستسهلها الصغير والكبير في العلاقات سواء الزوجية أو الصداقات أو الأقرباء، فتلك معضلة في الفهم والتطبيق، لأن الأصل فيها هو الربط وليس الانفكاك. والعلاقات الأسرية والاجتماعية كالشبكة المترابطة لا بد فيها من مساحة للمرونة حتى لا تنقطع!
ولعلك تفهم المغزى من المقال حين تتأمل معي الحديث النبوي المتفق عليه، حيث قال عليه الصلاة والسلام: «ما أحدٌ أصبر على أذى سمعه من الله، يدَّعون له الولد، ثم يعافيهم ويرزقهم».
abdullaghannam@