هذا عنوان كتاب صدر عام 2014 عن مركز دراسات الوحدة العربية في مجلدين من تحرير أستاذة الأدب العربي الدكتورة سلمى الخضراء الجيوسي. والكتاب كما يرد في مقدمته أتى كردة فعل من محررته تجاه كتاب «المدينة في التاريخ: أصولها، تحولاتها ومآلاتها» الصادر بالإنجليزية لمؤلفه الأمريكي لويس ممفورد عام 1961. فقد خلا هذا الأخير من أي مدينة عربية أو إسلامية، وهو ما حفز محررة الكتاب على إصدار كتاب موازٍ له يتناول المدينة في العالمين العربي والإسلامي. وهكذا كان.
والكتاب عبارة عن ورقات علمية لعدد كبير من الباحثين في مختلف المجالات، منهم مَن كان يوما ما أستاذا بكلية العمارة والتخطيط بجامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل (بمسماها القديم آنذاك) مثل بسيم حكيم. المجلد الأول مقسم إلى ثلاثة أقسام وهي: مواضيع عامة وبه خمسة فصول، والقسم الثاني مقاربة إقليمية وبه أربعة فصول، والقسم الثالث وهو دراسة الحالات وهو الجزء الأهم والأعمق أثرا، وبه ثمانية عشر فصلا. في هذا القسم يتناوب الباحثون على دراسة كثير من مدن العامل الإسلامي من الرباط وفاس بالمغرب، إلى بخارى وسمرقند في المشرق، ومن بورصة وإسطنبول في الأناضول، إلى صنعاء ومدن الصحراء في أفريقيا. وقد تناول كل باحث جانبا بالغ الخصوصية للمدينة موضع البحث. فمن الظاهرة الريفية للهند والتأثير الحاسم الذي أوجده المسلمون وأعطى الهند شكل مدينتها، إلى الطبيعة العضوية لمدن البلقان، ومن مفهوم المدينة الموروثة إلى مدينة العصبية، ومن اكتظاظ مدن المماليك في مصر والشام إلى المدن الصحراوية شبه الخالية في أطراف العالم الإسلامي، ومن تونس التي تبدو وكأنها كتلة منحوتة من الحجارة بطرق متصدعة، إلى أثر الحديقة في تكوين فضاءات بالغة الخصوصية في عدد من مدن أواسط آسيا ودول شمال أفريقيا، والساحل الشرقي للمتوسط، يعيش القارئ تجربة العيش في مدن توحدها ثقافة إسلامية عريضة، وقد تلونت بفسيفساء اجتماعية وبيئية بالغة الخصوصية والتميز.
المجلد الثاني من الكتاب به قسمان هما وظائف المدن، والمدينة الحديثة والمعاصرة وبكل منهما ثمانية فصول. وبالرغم من أن كل فصل من فصول الكتاب بمجلديه يركز على بحث ميداني مفصل في مدينة بعينها إلا أن هناك سياقا عاما يجعل من موضوع كل قسم من أقسام الكتاب وكل فصل من فصوله شاملا، ويمكن تطبيقه على عدد من مدن العالم الإسلامي، بالرغم من الاختلافات الجغرافية بين مدنه. خذ مثلا هذا التساؤل الذي يطرحه أحد الباحثين في الفصل الخامس والثلاثين من المجلد الثاني: «هل المنازل ذات الفناء نموذج عالمي؟». هنا لا يجيب الباحث إجابة قاطعة، لكنه يأخذ القارئ في جولة تاريخية جغرافية سوسولوجية في تطور الفناء بحوض البحر الأبيض المتوسط والجزيرة العربية وبلاد الشام ويجري مقارنات في الأشكال والتحولات للفناء في هذه الأقاليم المختلفة والقوى المسؤولة عنها.
الكتاب بمجلديه متميز حقا سواء في تناوله للمواضيع المدرجة في سائر أقسامه وفصوله، أم بتعدد المدن المختارة للدراسة، أم في التأكيد على موضوع بعينه، هو ما يجعل كل قسم من أقسامه بناء واحدا متماسكا. غير أن أهم ما يستخلصه القارئ من الكتاب هو في المرونة ربما غير المتناهية لأشكال وصور وتجليات المدينة في العالم الإسلامي. هذه التعددية المدهشة في أشكال المدن الإسلامية نتجت بطبيعة الحال عن قوى ومعطيات سوسيولوجية خاصة بكل مدينة على حدة، يبدو معها الكتاب وكأنه فسيفساء لمدن مختلفة، في أقاليم جغرافية مختلفة، في سياقات تاريخية، وخلفيات اثنية مختلفة، وقد تراصت في عقد واحد. هذه الطبيعة الفسيفسائية إن صح التعبير، هي ما يجعل من مدن العالم الإسلامي حالات خاصة في تاريخ التطور الحضري تعكس التنوع السوسيولوجي الفريد للعالم الإسلامي.
[email protected]