العلاقة بين الإيمان والعقل نادرا ما تتصف بالانسجام والسلام، فهي علاقة صراع وجدل في كل ما يتلقاه الإنسان من أوامر ونواهٍ وتوجيهات تحث عليها الأديان، والسؤال الحقيقي لا يتمحور حول دور العقل في الدين بل في المكانة التي سوف يشغلها، فكل المجتمعات الدينية توظف العقل في عملية تعليم المعتقدات الدينية للناشئة والمعتنقين الجدد للدين واتباع أي من فروع مذاهبه، وتمكين المؤمنين في أي دين من فهم إيمانهم قدر الإمكان وهذا الأداء لا اختلاف فيه، ولكن المثير للجدل هو نوع الدور الذي ينبغي للعقل أن يلعبه في إثبات صدق أو بطلان نظام المعتقدات الدينية إن سلمنا أنه بإمكاننا أن نوظف العقل في فهم الإيمان.
ولكي يصل القارئ إلى فهم المغزى الذي أود الإشارة إليه فلا بد من ذكر هذا النموذج الذي حدث في الثامن من نوفمبر عام 1978 ببلدة جونزتاون في جمهورية غيانا في أمريكا الجنوبية في واحدة من أفظع المآسي الدينية في العصر الحديث، حيث مات ما يقارب 914 إنسانا في حادثة انتحار جماعية في طقس ديني بتناول عصير يحتوي على مادة السيانيد، وكان هذا الانتحار الجماعي هو الخيار الوحيد للخروج من الحالة البائسة التي كان يعيشها مؤسس جماعة جونزتاون الواعظ البروتستانتي مع أتباعه، والذي أخبرهم أن الفعل الوحيد الذي سوف يحفظ استقامتهم في عالم يعاديهم ويهددهم هو أن ينهوا حياتهم وقد تم شحنهم بتعاليم منطقية ومعتقدات دينية، فقد كان هؤلاء الناس أصحاب إيمان بمعتقدهم وبواعظهم جونز، وأن الفطرة السليمة والمنطق العادي لم تمكنهم من الشك والتساؤل الذي هو نقيض الإيمان حول صدق الواعظ جونز كما ادعى لهم، وأن التهديد الأخطر للحياة الدينية هو مطالبتهم بتوظيف العقل الإنساني لفهم حقيقة وصدق توجيهات جونز التي تبدو وكما لو أننا نطالبهم أن ينقضوا إيمانهم الذي عاشوا بموجبه وماتوا من أجله.
فهذا النموذج السابق يتخذ صورا متعددة في كل المجتمعات البشرية وينطبق على كل إرهابي فجر للقضاء على نفسه قبل مخالفيه، وعلى كل إقصائي لا يرى إلا صحة مذهبه وبطلان مذهب غيره، وعلى كل طقوسي يستلذ بتعذيب ذاته لتغذية إيمانه الضعيف، وعلى كل حارس عادة وتقليد ويصارع من أجل بقائها وديموميتها، فهؤلاء يتبعون في ذلك تعاليم وعاظهم من أجل نصرة وعلو معتقداتهم، والتي استغلت إيمانهم العميق وسيلة لتحقيق مصالحهم وفئويتهم وتسلطهم في تأصيل مشروعهم، معتمدة على نفي دور العقل في الشك والتساؤل والبحث فيما إذا كانت تلك الأفكار الإيمانية صحيحة أم خاطئة، وهل هي ذات قيمة أصيلة أم متحورة، وهل يمكن العمل على فحصها باستمرار أم أنها محصنة، وهل ما زالت الحاجة إليها أم أنها انتفت وتلاشت، وهل هي الحقيقة التي تقررها جماعة القطيع أم الخوف من الانعزال عنها؟
وبعد كل ما سبق فقد يخالج القارئ المقولة المتعارف عليها «هات من الآخر»، وأعطنا الزبدة من وراء مقالك الذي يحمل العديد من الرسائل المشفرة والمبهمة والتي قد تأخذنا في دوامة الشك والتساؤل حول مضمون المقال وهدفه، والجواب عزيزي القارئ تجده واضحا في ثنايا ما استفهمت واستعجبت وشككت منه فقط.
[email protected]