المسافة بين المنع والانفتاح في مسيرة المجتمع والدولة تختصرها الصعوبات، التي خنقت كل مشروع فلسفي، سواء على المستوى الفردي أو الجماعي أو أي مبادرة في إطار برامج تربوية تعليمية جامعية أو برامج ثقافية مؤسسية.
ففي فترة التسعينيات نشطت الحركة الثقافية باتجاه النقد الأدبي تحديدا، فامتلأت الملاحق الثقافية بالمقالات، التي تدعو إلى تجديد الخطاب الأدبي بمقولات راجت عن مفهوم النص والشعرية والمؤلف والسرد والقارئ... إلخ من تلك المقولات، التي تنتمي بالنهاية إلى الحقول الفلسفية المختلفة باعتبار الصلة القوية القائمة بين الفلسفة والنقد.
ولقد تجلت تلك المقولات في الدراسات والبحوث، التي اعتلت المنابر الثقافية والندوات والملتقيات.
وأصبحت مجلة علامات -على سبيل المثال- الدورية التي يصدرها نادي جدة الأدبي علامة بارزة في الوطن العربي على حال النقد الأكثر حداثة في طرح وتأصيل وتطبيق المفاهيم الحديثة في النقد الأدبي، بالخصوص شهرتها بين نقاد وكتّاب المغرب العربي.
ربما لهذا الأمر دلالته في سياق حديثنا عن الانفتاح على الفلسفة، فإذا كان من المتعذر على الفلسفة أن تحضر بثقلها وتاريخها، وأن تحضر كممارسة في الأوساط الثقافية والاجتماعية، فإنها استطاعت أن تتسلل وتؤكد حضورها في تلك الأوساط عبر الممارسة النقدية المتميزة، التي حظيت بها فترة التسعينيات.
ثم بعد هذا التسلل باستحياء والمشي برجل عرجاء إذا جاز القول، جاء الانفتاح الذي جرف معه كل المخاوف، التي كانت تحيط بكل شيء اسمه فلسفة، حتى شهدنا اللحظة التي انتصب فيها أمامنا الآن أول مؤتمر للفلسفة يقام في العاصمة الرياض.
قد تكون هذه المتغيرات السريعة في التوجه إلى الفلسفة والانفتاح على آخر مستجداتها كما توحي به أعمال المؤتمر هي من المثالية بمكان. لكنها في نفس الوقت تعطي مؤشرا على الرغبة في المساهمة بقوة «في إيجاد منصة سعودية لمناقشة مستجدات علم الفلسفة وتطبيقاته الحديثة»، كما هو واضح من الأهداف التي وضعتها هيئة الأدب والنشر والترجمة المشرفة على المؤتمر.
وإيجاد مثل هذه المنصة هو أمر في غاية الأهمية والضرورة، بحيث يفتح المجال للفئات المثقفة من جميع التوجهات المختلفة بالمشاركة الفعلية في تفعيل الخطاب الفلسفي باعتباره خطابا يطرح الأسئلة ويستولدها من قلب الأزمات والإشكاليات، التي تواجه المجتمع والدولة على السواء، بحيث تجري هذه المشاركة في إطار من الحوارات والمناقشات، التي لا تنفك تتوسع وتنتشر كلما جرى التركيز على أهم القضايا، التي تمس الفرد السعودي بالدرجة الأولى في حياته اليومية، والقضايا العربية المشتركة ثانيا.
صحيح من جهة أخرى أهمية المساهمة في القضايا العالمية باعتبار الفلسفة قادرة على أن تقدم حلولا لأزمات عالم اليوم. وقادرة أيضا على إظهار الوجه الثقافي الحقيقي للطاقات المثقفة الواعية للشباب السعودي إلى العالم. لكن على الفلسفة في المقام الأول بالنسبة للمشهد الثقافي والاجتماعي السعودي أن تساهم مساهمة فاعلة كما قلنا في تقديم الحلول الناجعة لأزمات متعددة، على سبيل المثال، أزمة البيئة والتصحر، أزمة التشبث بالهويات الضيقة، أزمة المواطنة في علاقتها بالدولة، إلى غيرها من القضايا كالقيم الأخلاقية والجمالية والأدبية، التي لا يمكن لغير الفلسفة أن تحدث فيها تحولا كبيرا باعتبارها قوة ناعمة بيد المجتمع والدولة.
@MohammedAlHerz