واللغة هي أكثر من وسيلة تخاطب، اللغة هي أداة ربط بين الناس، اللغة هي مادة البناء التي يقوم عليها الفكر والفن والحضارة والأدب والدين وكل شيء. وكلما وحدت اللغة بين الناس اتحدوا في كل شيء. لنتصور فصلا دراسيا أعطى فيه المعلم المجموعة الأولى من التلاميذ أقلاما "رصاص"، وأعطى المجموعة الثانية ألوانا مائية وأعطى المجموعة الثالثة ألوانا زيتية، وأعطى المجموعة الرابعة ألوانا خشبية وهكذا. هنا سيشعر الطلاب من كل مجموعة بالتواصل الفطري بينهم لأن هناك رابطا بينهم وهو وسيلة الرسم. ستجد أن أفراد كل مجموعة قد انخرطوا في نقاش بينهم وأنتجوا رسومات متشابهة تختلف جذريا عن زملائهم في المجموعات الأخرى. هكذا تعمل اللغة. إن من يتحدث نفس اللغة يقرأ من نفس الكتاب، ويسكن نفس البيت، ويأكل من نفس الطبق، ويشرب من نفس الكأس، ويتلحف بنفس الوثار، ويتظلل تحت نفس الشجرة. اللغة هي الحجارة التي تبنى بها المجتمعات والفكر الإنساني والثقافة والعمارة والحضارة. اللغة مقدمة على كل شيء.
هذا عن اللغة على وجه العموم. وإذا ما تم النظر إلى العالم لغويا يتضح لنا دور اللغة في تكوين العالم ماضيا وحاضرا ومستقبلا. انظر إلى خارطة العالم قديمها وحديثها، ترى أن العالم مقسم لغويا إلى كيانات لغوية كبرى، تحتل العربية منها كلغة أم، امتدادا جغرافيا وسط العالم وكلغة ثانية (في العالم الإسلامي) مساحة لا تضاهيها فيها لغة أخرى في العالم. ليست هذه مناسبة للتفاخر بالعربية، بل هي مناسبة للتذكير بحاضرها وواقعها وحالها وبمسؤولية أبنائها تجاهها.
الحديث عن العربية اليوم حديث تعود أصوله إلى بدايات عصر النهضة الحديث. وهو حديث يبدأ أولا بتعريف دور اللغة في حياة المجتمع: في التعليم، في التدريب، في الإعلام. عن أي عربية نتحدث؟. هل هي عربية ابن المقفع والمتنبي، أم عربية ابن جني، أم عربية أبي نواس. هل هي عربية أدب طه حسين أم عربية العلوم. هل هي العربية الكلاسيكية أم عربية اللهجات الدارجة في طول العالم العربي وعرضه؟. وفي الجامعات هل ندرس بالعربية أم بلغات العصر. وأين هي العربية كلغة رائدة في عالم اليوم. وأين دور الترجمة؟ أسئلة كثيرة تحاصرك من كل جانب تختلف الإجابات عن كل منها باختلاف أبناء العروبة أنفسهم.
اللغة معطى إنساني وهي اختراع بشري والإنسان هو من بيده القدرة على التحكم بلغته. يعلمنا التاريخ أن اللغة تابعة للأمة، فمتى صعد الإنسان صعدت معه لغته والعكس صحيح. كثيرة هي اللغات التي سادت ثم بادت. وبقيت العربية لغة سائدة وستبقى كذلك ﴿إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون﴾ صدق الله العظيم.
غير أن لغة التواصل السريع خصوصا في وسائل التواصل الاجتماعي وفي الحديث الشفاهي مع من لا يتحدث العربية ما يوجب التوقف مليا أمامه لإعادة تقويم ما اعوج من اللغة. في النهاية اللغة معطى سوسيولوجي وستتعامل اللغات مع ما تمر به من تحولات وفق معطيات واقعية تنبع من صميم الحياة ذاتها. هذا اليوم مناسبة للتذكير بعروبة اللغة والفكر والدين والحضارة.
[email protected]