كانت المسافة بين منزل الأسرة وموقع السينما لا تتعدى بضع كيلو مترات معدودة، كنا نقطع سوق المحرق القديم منطلقين من «فريج البناني»، الذي يقع منزلنا فيه، عابرين صخب المارة وأصوات الباعة على جانبي السوق حتى نصل إلى سلسلة من المقاهي الشعبية في (داعوس) طويل ينتهي حيث توجد سينما المحرق.
لا أتذكر تفاصيل الفيلم في لحظتها، ولا كيف دخلنا، وجلسنا على كراسيها الخشبية، أو كيف اهتدينا إليها في فوضى من الزحام والصراخ والكلام عالي النبرة والأحاديث الجانبية، حيث تبدأ منذ أن تدخل إلى أن ينتهي الفيلم؟
وعندما سألت لاحقا بعدما كبرت، علمت أن الزحام هو على التسابق في حجز التذاكر، إذ يحدث معها تعارك بالأيدي والألسن، خصوصا إذا كان الفيلم قد حاز على شهرة كبيرة مثلما هو فيلم «بس يا بحر».
ما أتذكره تماما الانبهار، الذي فتح حواسي على عالم السينما، وكسر شيئا من رتابة الرؤية البصرية للأشياء من حولي، وأخذني في رغبة جامحة على الإدمان في مشاهدة الأفلام، وكانت الفرصة مواتية في تلبية مثل هذه الرغبة لاحقا، في ظل انفتاح البحرين وأهلها، وهي السباقة خليجيا، على السينما، ومساعيهم التي تكللت بافتتاح عدة دور للعرض السينمائي منذ الأربعينيات، سواء في المنامة أو المحرق، بحيث كانت تعرض فيها الأفلام العربية والهندية وأفلام الغرب الأمريكي على الأغلب.
الأفلام الهندية احتلت مساحة شاسعة من ذاكرتي البصرية، ثم جاءت بعدها أفلام الغرب الأمريكي.
ولا أعلم لماذا لم تجذبني الأفلام العربية، التي كانت تعرض فيها أفلام أشهر الممثلين كرشدي أباظة وأحمد مظهر وفاتن حمامة وفريد الأطرش وفريد شوقي، رغم أن أول فيلم شاهدته هو «بس يا بحر»؟!
أظن أن الأسباب في وقتها كان لها ارتباط بالجالية الهندية ذات الحراك القوي في المجتمع البحريني، في ترويج الأفلام الهندية من جهة، وطبيعة هذه الأفلام في تلك الفترة، على إظهار العدالة الاجتماعية من خلال شخصيات بطولية تمثل المجتمع الزراعي الكادح ضد الطبقة الاستقراطية، من جهة أخرى.
وهذا ما كان يثير أحاسيس المشاهد، والتفاعل معها لأنها قيم سامية مطلوبة عند هذه المجتمعات.
بينما الأفلام العربية في تلك الفترة كانت تتسم بالرومانسية، التي كانت تحاكي الطبقة البرجوازية في قصصها وأسلوب حياتها ولبسها وعلاقاتها.
قد يكون هذا السبب يرتبط بالقلة مثلي بسبب مزاج ذاتي ليس له علاقة بعوامل موضوعية؛ لأن الأفلام العربية كان لها رواج ومشاهدون كثيرون أيضا، ربما لا تقل عن الأفلام الهندية مشاهدة. لكن بالنهاية هذا ما خلصت إليه.
بالعودة إلى الفيلم ذاته، وحين أنبش الذاكرة، لا أجد سوى مشهد واحد، ما زال عالقا فيها، وهو مشهد صوت البحر ومركب الصيادين يتهادى جهة الشاطئ، حيث أم الفتى (مساعد) الغريق تعفر خدها برمل البحر وترمي في وجهه اللؤلؤ.
هذا المشهد برسوخه في ذاكرتي حوّل البحر عندي إلى كائن أسطوري، لا ينفك يغذي عندي الميل الكبير، الذي ترسخ مع العمر في الإدمان على مشاهدة أفلام الأكشن. قد أحدد يوما في الحديث عن هذه التجربة بالتفصيل.
@MohammedAlHerz