تفشي وباء كورونا عبر الحدود وأحداث العامين الأخيرين خير دليل على وحدة عالمنا
أكد صاحب السمو الملكي الأمير تركي الفيصل، أنه في ظل احتدام الصراعات السياسية والعسكرية الدينية والأثنية في كثير من المجتمعات والدول، في عالم واحد متداخل ومتواصل تهيمن عليه ثقافة المتغلب، يحتل مفهوم الهوية والمواطنة حيزا واسعا من الاهتمام، ويثير كثيرا من التساؤلات والمخاوف والهواجس حول المستقبل، ليس في منطقتنا وحسب بل في أرجاء المعمورة.
تحولات شاملة
وأضاف في محاضرة عن «تحديات الهوية والمواطنة»، استضافها نادي الأحساء الأدبي: لن أدخل في تعريفات لمصطلحات ومفاهيم الهوية والمواطنة عاطفيا وفكريا وسياسيا ودينيا، فالأدبيات حولهما لا حدود لها وفي ازدياد، بسبب ما يجري في العالم من تحولات شاملة تفرض قراءات جديدة ومختلفة للمفهومين، ومع ذلك فالهوية هي إحساس فطري بالانتماء إلى جماعة بذاتها لها لغتها ودينها وثقافتها وحضارتها وتاريخها وجغرافيتها وذاكرتها المشتركة، أما المواطنة، فهي مفهوم حديث، وهي انتساب نظامي إلى دولة بحدود جغرافية معترف بها، ودستور وحكومة وبحقوق وواجبات مادية ومعنوية، والهوية والمواطنة تتقاربان وتتداخلان وقد تتماهيان بشكل كامل إذا ما كانت الدولة تجسد وجود جماعة ذات هوية واحدة.
تطورات سريعةوتابع: في عالم اليوم الذي تشكله أكثر من 190 دولة، المواطنة هي المعيار الذي تقوم عليه هذه الدول على الرغم من أن الكثير منها لا تجسد هوية واحدة، وبعضها قد يكون نجح، وبعضها قد يكون فشل في صوغ هوية واحدة تلغي الهويات الأخرى أو الهويات الفرعية فيها، ومع ذلك فالقاعدة هي وجود الدولة بكل عناصرها لتحقيق الأمن والكرامة والعدالة والمستقبل لشعبها، والمواطنة عماد علاقتها بمواطنيها، ولم يكن سؤال علاقة الهوية بالمواطنة بالأهمية نفسها لو أن العالم لم يشهد منذ عدة عقود تطورات مذهلة وسريعة لم تكن مسبوقة في التاريخ البشري، تمثلت في زيادة الاندماج والتداخل والتفاعل بين عناصر الاقتصاد والتقنية والاتصال والثقافة، سمح بالحديث عن عصر جديد أصبح العالم فيه قرية لا حواجز قومية أو خصوصية وطنية فيها، ولا حدود جغرافية لها، والاقتصاد كوني والثقافة عالمية والهوية وطنية والقضايا دولية والوعي عالمي والمواطن كوني، وما شهدناه خلال السنتين الماضيتين من تفشي وباء كوفيد- 19 عبر الحدود خير دليل على وحدة عالمنا، لقد أثارت هذه التطورات والاتجاه نحو العولمة مخاوف الكثيرين في العالم الذين رأوا فيها -الرغم من بعض الإيجابيات التي تحملها- غولا يهدد الهويات الوطنية ويضعف دور الدولة القومية أو الوطنية ويحول مجالها إلى سوق ومواطنيها إلى مستهلكين.
هواجس عالميةواستكمل حديثه قائلا: لم نكن وحدنا في الخليج أو العالم العربي والإسلامي من لامسته هذه الهواجس حول مهددات وتحديات مسألة الهوية التي تحملها العولمة، ففي الولايات المتحدة الأمريكية الأكثر اندماجا في العولمة والمحرك لها أثارت مخاوف الكثيرين من صفوة نخبتها، فهذا عالم السياسة صاحب كتاب «صدام الحضارات» المفكر الشهير «صامويل هنتغتون» قسم حضارات العالم على أساس ديني متنبئا بحتمية الصدام بين اتباع هذا الحضارات، يؤلف في آخر أيام حياته كتابا جاء تحت عنوان «من نحن؟» Who Are We؟ وبعنوان فرعي «التحديات للهوية الوطنية الأمريكية»، وإذا كان تخوف هنتغتون هو من تغير التركيبة السكانية في الولايات المتحدة، التي هي في الأصل مجتمع مهاجرين، وازدياد عدد السود وذوي الأصول الإسبانية والمهاجرين من أتباع الهويات الأخرى، وما يمثله ذلك من تهديد لهيمنة العرق الأبيض الأنجلو ساكسوني، فقد كان خوفه في مكانه، فقد انتخب باراك أوباما -الأسود- رئيسا للولايات المتحدة. وهنا فإن المواطنة انتصرت وليست الهوية، وهذا تطور كبير في مجتمع كانت الهوية العرقية محددا لهوية رئيسه، وأنا سعيد أن هنتغتون شهد هذا الحدث قبل وفاته بوقت قصير ليشهد نهاية رؤيته الفوقية حول الهوية وحول صدام الحضارات.
الهوية الوطنيةوتابع: إن الإدراك يتزايد في منطقة الخليج حول أهمية موضوع الهوية الوطنية، لا سيما ونحن نرى الآثار المدمرة في بلدان كثيرة، ومنها بعض دولنا العربية التي لم تنجح في صياغة هوية وطنية جامعة إذ تفتت النسيج الاجتماعي فيها؛ بسبب هيمنة هويات فرعية دينية أو طائفية أو مذهبية أو مناطقية لا تبنى على أسسها الأوطان، بل تتسبب في تدمير الأوطان، وبذلك علينا أن نعض بالنواجذ على كياناتنا الوطنية الناجحة، وأن نرسخ هوياتنا الوطنية لنحافظ على المنجزات المحققة، وهذا -بحمد الله- ما نلمسه عند شعبنا وبذلك لا خوف على هويتنا الأصيلة، لقد قامت المملكة وتوحدت وترسخ كيانها على إرث تاريخي عظيم، جعل من شعبها شعبا هويته واحدة، يجمعه إسلامه وعروبته وانتماؤه لوطنه ودولته، وهو بكل تنوعاته مرتبط بهذه المظلات الكبرى الجامعة، وتعايش الجميع في ظل دولة لا تميز بين مواطنيها، ولكنها في الوقت نفسه لم ولن تسمح مطلقا بأي نزاعات مدمرة مهما كانت خلفياتها أن تهدد وحدتها ووحدة نسيجها الاجتماعي وأمنها واستقرارها.
التعايش بسلاموقال: في هذا السياق، لا ينبغي أن ننسى أنه خلال العقود الماضية استقبلت المملكة عشرات الملايين من الوافدين الذين قدموا إليها للعمل أو الزيارة، وما زال يعيش فيها أكثر من اثني عشر مليون وافد، وتعايش الجميع بسلام ولم يؤخذ أحد بجريرة دينه أو مذهبه أو جنسيته، وهذا دليل على أن التسامح أيضا ديدن هذا المجتمع وجزء من أخلاقه، ومهما نسمع أحيانا من اتهامات باطلة توجه للمملكة بشأن التعامل مع الآخرين المختلفين فالواقع يدحضه، ولم يؤخذ أحد إلا بسبب إخلاله بالنظام العام أو بسبب العمل على زعزعة الأمن والاستقرار، كما لا تفوت الإشارة إلى أن المملكة بكل ود وترحاب وتسامح استقبلت وخدمت خلال العقود الماضية، عشرات بل مئات الملايين من المسلمين بكافة خلفياتهم المذهبية والدينية كحجاج ومعتمرين وزوار، إن وطنيتنا الحقيقية ليست شوفينية أو متعالية أو متطرفة بل وطنية اعتدال وتسامح وتعايش وانفتاح، وهذه الوطنية تترسخ في وجدان شعبنا بالأخذ بالأسباب الثقافية والتعليمية والتربوية والنظامية، وأحسب أن هذا ما نشهده منذ انطلاقة رؤية خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان، وسمو ولي عهده الأمين الأمير محمد بن سلمان.
التسامح والاعتدالوأضاف: إن التسامح والاعتدال والوسطية سمة طبيعية في مجتمعنا، والدولة منذ قيامها على يد المغفور له الملك عبدالعزيز، ومن خلال أنظمتها وتشريعاتها وسلوكها داخليا وخارجيا لم تبتعد عن هذه المبادئ الإسلامية الراسخة، إلا أن ذلك لا ينفي أننا شهدنا ظهور بعض النزعات والجماعات والاتجاهات الفكرية والدينية والمذهبية المتطرفة والمتعصبة، التي كانت ستأخذ وتقود مجتمعنا نحو وضع يعاكس طبيعتنا وما نحن عليه، ولو لم تكن الدولة بقياداتها الحكيمة عبر العقود واعية لخطورة هذه النزعات المدمرة ومواجهتها، لكنا في وضع مختلف تسوده نزعات الفرقة والعصبية والتطرف والإرهاب، لقد أدت ممارسات البعض من أصحاب هذه النزعات إلى تهديد أمن واستقرار البلاد والإساءة إلى مكانتها الإقليمية الدولية، وأظهرتنا وكأننا بعيدون عن مفاهيم ومبادئ التعايش والتسامح، وعليه فقد بادرت المملكة أولا بالمواجهة الأمنية المباشرة مع قوى الإرهاب والتطرف من أي مذهب كان، وفي الوقت نفسه بالمواجهة الفكرية التي تنزع أية شرعية دينية أو مجتمعية لها.
مبادئ ساميةوأردف قائلا: لقد قامت المملكة بالكثير من المشاريع والمبادرات التاريخية، التي تعزز قيم الحوار والتسامح والتعايش داخليا وخارجيا، وجميع هذه المبادرات والمشاريع تقوم على مبادئ الوسطية والاعتدال التي هي مبادئ ديننا الحنيف، والتي تتضمن هذه القيم، وهي التي يقول عنها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان -أطال الله عمره-: «إن الاعتدال ليس كلمة تقال، أو وصفا لموقف أو شعارا براقا يرفع، وإنما هو منهج شامل والتزام بمبدأ يحقق مصالح عامة تهدف إلى الخير والنماء»، ويقول -حفظه الله ورعاه-: «اعتدالنا اليوم مطلب شرعي وضروري لمواجهة ما تعيشه الأمة من اضطراب وتجاهل للأسس والمبادئ كي نعزز وحدتنا وقوة بلادنا ونحافظ عليه». وعلى هذه المبادئ يقوم خطابنا العام والخاص ونرسم سياساتنا الداخلية والخارجية لنحقق عزة هذا الوطن ومجده، وتبع صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بقوله: «اليوم لم يعد التطرف مقبولا في المملكة العربية السعودية، ولم يعد يظهر على السطح، بل أصبح منبوذا ومتخفيا ومنزويا. ومع ذلك سنستمر في مواجهة أي مظاهر وتصرفات وأفكار متطرفة».
وقدم رئيس النادي الأدبي بالأحساء الدكتور ظافر الشهري وثيقة شكر ودرعا لسموه، ثم قدم الأمير عبدالعزيز بن محمد بن فهد بن جلوي درعا لسموه.
المملكة لا تميز بين مواطنيها ولا تسمح بتهديد وحدة نسيجها الاجتماعي وأمنها واستقرارها