بعد أن عقدت الصحبة مع أبي الطيب، علمت أن الشعر الرصين في واد، ونحن في واد آخر. لأبي الطيب الحق بأن يفخر ويقول:
ما نال أهل الجاهلية كلهم ** شعري، ولا سمعت بسحري بابل
ولم يكن أبو الطيب يخضع للمقارنات، بل يرى نفسه أعظم من أن يشبهها أحد، أو يعلوها أحد، فهو فوق كل أدوات التشبيه:
أمط عنك تشبيهي (بما) و(كأنه) ** فما أحد فوقي ولا أحد مثلي
في نظري أن أبا الطيب قد ألين له الشعر مثلما ألين الحديد لداود -عليه السلام-. كان مجلس سيف الدولة يغص بالشعراء والأدباء العظام، ولم يكن أبو الطيب يهاب أحدا منهم، وقد كان يتحداهم بأبيات من فوره، لو اجتمع منهم عشرات على أن يأتوا بمثلها في أيام ما استطاعوا، وهذه بعضها، كلها أفعال أمر:
أقل أنل أقطع أحمل عل سل أعد ** زد هش بش تفضل أدن سر صل
وهذا البيت بحاجة إلى تفكيك أفعاله، وشرحها. (إيتوني) بمثل أبي الطيب في عمق وصفه، ودقة تصويره:
أتراها لكثرة العشاق ** تحسب الدمع خلقة في المآقي؟!
كيف ترثي التي ترى كل جفن ** راءها غير جفنها غير راقي؟!
هي ترى العشاق من حولها كلهم يبكون، هياما بها، فتظن أن دموعهم قد خلقت في جفونهم، فلا تهتز لبكائهم، ولا ترحمهم. وكيف ترحمهم، وهي ترى كل الجفون باكية إلا جفنها؟!.
ومن جميل وصفه الدقيق، لمعاناته من جراء السهر حزنا على فقد الأحبة:
أعيدوا صباحي فهو عند الكواعب ** وردوا رقادي فهو لحظ الحبائب
فإن نهاري ليلة مدلهمة ** على مقلة من بعدكم في غياهب
بعيدة ما بين الجفون كأنما ** عقدتم أعالي كل هدب بحاجب
ومن طرائف ما وقع لي عندما كنت أدرس مقررا يتحدث عن الحضارة الإسلامية في إحدى الجامعات، أنني استشهدت بالبيت الأخير للتدليل على بلاغة المتنبي، فإذا طالب أمامي ينفجر بالضحك! فلما سألته عن السبب قال لي: أنت تقول إن المتنبي وصف تباعد جفونه كأن الرموش مربوطة في الحواجب، فأنا تذكرت (توم وجيري) في أفلام الكرتون، وأخرج لي صورة من جواله، فضجت القاعة بالضحك.
فلما رأيتها ندمت على شرحي، وحزنت على حالي وحال المتنبي!.
إلى اللقاء..
[email protected]