ولعل من الأسباب لهذه الحالة (توقف الذهن) العمل تحت ضغط الوقت وكثرة المهام، أو تراكم الضغوط المعنوية والنفسية من عدة نواح، فينتج عنها الجمود الفكري لأن العقل يفكر داخل الصندوق! وأقصد بالصندوق ذلك الروتين اليومي الصامت والقاتل للجديد، وتلك الأماكن المكررة التي نقصدها كل يوم حتى لم نعد نشعر بوجودها. في هذه الأجواء القاتمة لا بد من التغيير للخروج من هذه الدوامة بالأخص حين نتطلع إلى أفكار جديدة ومدهشة.
ومما قرأت في هذا الموضوع أن هناك دراسة تزعم (وقد تبدو غريبة) أن أحسن وقت لتدفق الأفكار هو أثناء الاستحمام! ولعل البعض منا يعرف قصة أرخميدس (عالم الرياضيات والفيزيائي) الذي صرخ وهو يستحم: وجدتها... وجدتها! حيث قفزت فكرة (قانون الطفو) إلى عقله عندما رأى كمية الماء المزاحة التي انسكبت على الأرض من حوض الاستحمام. إذن السر ليس في الحمام (أعزكم الله) ولا في الاستحمام، بل هو أن العقل يكون في هذه الأثناء يعيش رحلة استرخاء من الضغطين النفسي والبدني، وهنا تنبثق الأفكار بكل يسر وسهولة.
وعودا على بدء، فإن الفرزدق كان إذا زاره ذلك الجمود الشعري (كما ذكرنا في بداية المقال) يخرج إلى الصحراء لعدة أيام (استرخاء واستجمام) من أجل صفاء الذهن حتى تعود له القريحة الشعرية. وبما أننا ذكرنا الفرزدق فلا بد من ذكر الشاعر الملهم جرير، فهو حين تصيبه تلك الحالة من الجمود يصعد إلى سطح منزله ليلا متأملا السماء والنجوم (استرخاء واستجمام) حتى طلوع الفجر لتنقدح بعد ذلك شرارة الفكرة، فيبدع لنا أبياتا من الشعر يخلدها التاريخ.
وهذا لا يقتصر على الأدباء والشعراء، بل حتى الأفكار العلمية تأتي في تلك الأوقات (الاسترخائية)، حيث قرأت أن فكرة نسبية الوقت جاءت إلى أينشتاين حين كان يتنزه مع أحد أصدقائه فقد نظر إلى ساعة معلقة، فقفزت إلى رأسه نسبية الزمن.
ومما هو متداول ومعلوم في هذا الشأن أن بعضا من أعضاء مجلس الإدارة للشركات يخرجون في رحلات استجمام لعدة أيام خارج المدينة (للابتعاد عن أجواء ضغوط العمل والبيئة المحيطة) من أجل إعادة هيكلة الشركة أو إدخال أنظمة حديثة وأفكار جديدة للتطوير.
وأما على المستوى الشخصي فنحتاج لمثل هذه الأيام والأوقات (قد تطول وتقصر) حتى نخرج من ضغوط العمل والأسرة والارتباطات الاجتماعية لتجديد النظرة للحياة والأهداف، بل حتى المشكلات العالقة منذ زمن سنجد عسرة في إيجاد أفكار وحلول لها لأن العقل مشغول بدوامة الحياة ومشاكلها (داخل الصندوق)، فالعقل البشري لا يستطيع أن ينشغل بأكثر من فكرة في نفس اللحظة.
الخلاصة، اقفز من الصندوق، وسيمطرك العقل أفكارا.
abdullaghannam@