إنَّ الكُتَّاب يكتبون بأبصارهم بشكلٍ تلقائي، ثم يحتاجون بعد ذلك إلى تذكير أنفسهم بضرورة العناية بالمحسوسات الأخرى: الصوت، الرائحة، الملمس، والطعم. ومع جرعةٍ من التركيز، سيصبح في مقدورنا أن نكتب جُمَلًا مصقولة، ومكثَّفة، وبالغة الحِسّيَّة. تُرى، وتُشمُّ، وتُسمع، وتُذاق أيضًا.
كذلك يصف جوزيف كونراد أهدافه من عملية الكتابة بقوله: «أريد -بقوة الكلمة المكتوبة- أن أجعلك تسمع، أن أجعلك تشعر، وقبل كل شيء، أن أجعلك ترى». لأن صميم عمل الكاتب أن يكون ناقلًا دقيقًا وواضحًا للتجربة الإنسانية الغنية والمحسوسة.
عندما نقول عن القراءة «حياة أخرى نعيشها»، فهذه ليست مغالاة، لأنها تجربة مُعاشة فعلًا. إنها ضحكات نسمعها، وندوب نتحسَّسُها، وصور نراها، وروائح ننشقها، وأصوات نبحث عنها، وطقوس مطبوعة على جلودنا. كل ذلك نتلقَّاه ونشعر به من خلال اللغة وحدها.
وهذا يجرُّنا للحديث عن الكتابة الوصفية التي يمكننا تعريفها بأنها أداة أدبية يوظّفها الكاتب كي تتحوَّل القراءة من عملية ذهنية محضة، إلى تجربة متكاملة: ذهنيًّا، وحسيًّا، وعاطفيًّا. إنها الطريقة التي تتحوَّل فيها الكلمات من رموز مُجرَّدة إلى صور وأصوات وأحاسيس. هي الفضاء الذي تصبح فيه الكتابة عن الشيء، هي الشيء نفسه. إنها المكان الذي نتحوَّل فيه من قُرَّاء إلى متفرّجين. فلولا الوصف لغابت عن الرواية جرعة عاطفية عالية، ولتحوَّلتْ القراءة إلى تجربة ذهنية جافَّة، ولرأينا الأفكار طافية على سطح اللغة. وكما يقول توفيق الحكيم: «وسيلة الأديب أو الفنان في تفسير الإنسان مغايرة لوسيلة العالِم أو الفيلسوف، فهو لا يلجأ لمنهج بحثٍ أو تحليل، ولكنه يلجأ إلى موهبة خلقٍ ومحاكاة».
إن وصف صحراءٍ قاحلةٍ قد يقع في سطرين، أو في عشر صفحات، بحسب مكانتها المحورية داخل النَّص، وهذا أمر يتوقَّف على زاوية النظر بالنسبة للكاتب، ويشي بأن حاجتنا للوصف تتغير باستمرار بناءً على تغيُّر المعطيات في العمل.
الرواية هي الأداة التي تصبح من خلالها الذات هي الآخر، ويجد القارئ نفسه مكان شخص مختلف، في زمان مختلف، حاملًا معه عبء تجربةٍ لم يعشها. وصول النَّصّ إلى هذا المستوى من التأثير يتطلب كتابة وصفية شفيفة ودقيقة.
أما عن الحبكة، فغالبًا ما يعتري الكثير من كُتَّاب الرواية قلقٌ حيالها، والذي يُعتبرُ استباقًا لمشكلة قد لا تحدث، وإن كان ثَمَّة قلق، فيجدر أن يكون بشأن قدرتنا على استخدام المفردات المناسِبة، ورصْف الجُمَل الفعَّالة، التي تدفع بالحدث وتكشف الشخصية.
خلاصة القول: أن ما ينبغي علينا أن نقلق بشأنه هو كتابة «الجملة القادمة»، التي ما إن نكتبها إلا وسوف نقلق على الجملة التي تليها، وهكذا. كلمة بعد كلمة، سوف يكتمل العمل الأدبي من تلقاء نفسه.
@RaedAAlBaghli