تحدثنا في المقال السابق عن لغة المسافات والمساحة الشخصية أو المنطقة المحيطة بالإنسان، التي يعتبرها نفسياً ملكاً له، والتي يشعر فيها بالأمان وينزعج إذا اقتحمها مَن لم يسمح لهم صراحة أو ضمنياً باقتحامها. وكان تركيز حديثنا على المسافة الفاصلة بين الأجساد، التي يحسبها العقل بطريقة ما بناء على مقاييس موجودة مسبقاً ونتيجة لعوامل مختلفة مثل: جنس الشخص، تربيته، ثقافته، طبيعة المجتمع الذي ينتمي إليه، حياته الاجتماعية، الاقتصادية، العاطفية، الدينية وقناعاته الشخصية. تحدثنا عن كيف تتسع هذه المسافة أو تتقلص بحسب طبيعة العلاقة بين الكائنين وتتلاشى تقريباً في العلاقات الحميمة. تحدثنا أيضاً عن أهمية فهم لغة المسافات الجسدية وحاجة الكائنات الحية للمساحة الشخصية وأهمية احترامها.
لقد طرح الأستاذ الجامعي وعالم الإنسان والاجتماع، إدوارد هال سنة 1966 فكرة المساحة الشخصية الجسدية وقسّمها لأربع مناطق. أقرب تلك المناطق للإنسان هي (المسافة الحميمة) وتتضمن الاتصال الجسدي كالتقبيل والاحتضان وغيره، وتشمل أفراد الأسرة وأقرب الأشخاص للإنسان كالوالدين، الإخوان، الأزواج والأبناء، تأتي بعد ذلك (المسافة الشخصية) وهي المنطقة التي يتفاعل فيها الإنسان مع أفراد عائلته وأصدقائه كلّ حسب عمق العلاقة معه. ثم ننتقل للمسافة الثالثة وهي (المسافة الاجتماعية)، التي تشمل المعارف وزملاء العمل والجيران. وأخيراً (المسافة العامة) وتتعلق بكل مَن لم تشملهم أي مسافة من المسافات السابقة، وهم الجماهير الغفيرة، التي حولنا والغرباء، الذين لا تربطنا بهم أي علاقة قرابة أو صداقة أو جيرة.
كثيراً ما ينقل الإنسان طواعية وبرغبة منه شخصا من منطقة لأخرى. كانتقال شخص من دائرة العامة لدائرة الأصدقاء أو من دائرة الأصدقاء للمنطقة الحميمة لكن يتطلب ذلك موافقة الطرفين. ويحدث أيضاً أن يتم اقتحام تلك المسافات، وانتهاك المساحة الشخصية المحسوسة للآخر، فيعتقد بعض الأشخاص أنهم في دائرة الأصدقاء بينما هم في دائرة العامة أو يتوهمون انتماءهم للمسافة الحميمة بينما مكانهم الحقيقي هو دائرة الأصدقاء. بإمكان الانتهاك أن يأخذ شكل السيطرة على جزء كبير من المساحة بالمقتنيات والمتعلقات الشخصية. يحصل ذلك الاقتحام عادة بسبب سوء فهم بين الطرفين يكون إما نتيجة إرسال الأول لإشارات خاطئة أو استقبال الثاني للإشارات الصحيحة لكن فهمها بطريقة خاطئة. وفي بعض الأحيان، يكون ذلك الاقتحام متعمداً وفظّاً ليصبح كالغزو، ومن أبسط الأمثلة على ذلك، الاعتداء الجسدي أو التحرش الجنسي.
يضطر الإنسان في بعض الحالات، لقبول اقتراب الأشخاص الغرباء منه، والتكيف المؤقت مع المسافات الضيقة مجبراً حتى لو أشعره ذلك بالانزعاج الشديد. كقبوله اقتراب ركاب الباصات المزدحمة منه، أو جلوسه بجانب شخص غريب لساعات طويلة على متن طائرة، حيث تلتصق المقاعد ببعضها البعض. لكن السؤال المهم جداً، الذي يطرح نفسه، ويجعلنا نفكر ونتأمل أكثر لفهم وتحديد المسافات الشخصية هو: هل تقتصر المساحة الشخصية على الأجساد فقط؟.
@Wasema