جاء هذا البيت العظيم على لسان صاحبي الأديب الراقي فانتشيت طربا، وإن كان معناه لا يوحي بالنشوة ولا بالطرب. ثم دار الحديث حول معناه، وكيف استطاع أبو الطيب أن يلخص حالة نكران قلوب كثيرة، لأياد كثيرة. واختلفنا في مقصد أبي الطيب، لأنه يضمن شعره المعاني الغزيرة، في جمل قصيرة، وانتهينا إلى أن أشد الناس ظلما هو الذي تنتشله أيدي الرجال من براثن الفقر أو الذل، فلا يرقى أن يجزيهم برد المعروف، بل يحسد هؤلاء الرجال على ما هم فيه من نعماء، لا يزال هو يتقلب فيها، فهل رأيتم أعجب من هذا؟ هذا هو معنى البيت.
وكم شكى أبو الطيب من مثل هذه النفوس الدنيئة، التي يأنف من ذكرها أقحاح العرب الكرماء، وكان هو نفسه يأنف منها:
وآنف من أخي لأبي وأمي ... إذا ما لم أجده من الكرام
بل لم أقرأ في حياتي وصفا أدق وأعظم في الهجاء من وصفه لتلك النفوس اللئيمة التي يتأذى منها حتى الموت!، فلا يقربها ساعة قبض أرواحها إلا بعود يحمله في يده من قبح نتنها وروائحها القبيحة:
ما يقبض الموت نفسا من نفوسهم ... إلا وفي يده من نتنها عود!
والكرم عنده لا يقتصر على بذل المال، بل هو معنى أعلى وأرقى من هذا، فالطبع الكريم لا يفارق صاحبه حتى في أحلك لحظات الحرب العصيبة:
وفي الحرب حتى لو أراد تأخرا ... لأجبره الطبع الكريم إلى القدم
النفوس الحرة الكريمة هي التي يقيدها المعروف، حتى تصبح أسيرة له، تحتار كيف تستطيع أن تجزي صاحبه:
وما قتل الأحرار كالعفو عنهم ... ومن لك بالحر الذي يحفظ اليدا؟!
وبخلاف اللئيم الذي يحسد صاحب نعمته، وهو لا يزال يتقلب في تلك النعمة، تجد أن الحر الكريم إذا أسدي إليه معروف فكأنه صار أسيرا لدى صاحب المعروف، ولذا فإن أبا الطيب يراهم في الناس من النوادر: ومن لك بالحر الذي يحفظ اليدا؟.
وهذا أقسى على القلوب الحرة من نقل الجبال الشامخات على الكواهل:
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته ... وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
احذر: لا تكرم اللئيم، ولا تتواضع له.
والإحسان قيد للنفوس الكريمة الأبية، كما قال:
وقيدت نفسي في ذراك محبة ... ومن وجد الإحسان قيدا تقيدا
وقديما سارت أمثال العرب بمثل هذا، فقالوا: «غل يدا مطلقها، واسترق رقبة معتقها» وقد ذكر أهل التاريخ قصة جماعة أسرهم الحجاج بن يوسف الثقفي المعروف ببطشه، وأمر بقتلهم، لأنهم خرجوا عليه، إلا أنه رأى فيهم رجلا كان قد أسدى للحجاج معروفا فيما مضى، فعفى عنه الحجاج، وأطلقه، رغم أنه صديق عدوه، فلما عاد الرجل إلى قومه قالوا له: «عاود قتال عدو الله الحجاج، فقال هيهات، غل يدا مطلقها واسترق رقبة معتقها» وهذا هو الذي عناه أبو الطيب بقوله:
وما قتل الأحرار كالعفو عنهم ... ومن لك بالحر الذي يحفظ اليدا؟!
إلى اللقاء..
[email protected]