كل حياة فيها تمضي إلى مدينتها، لا تعرف التوقف أو الركون إلى الراحة، كل حياة فيها محاطة بقراء يقظين كلما رأوا الوهن يدب في أعضائها، والشيخوخة تفتح طريقا لها إلى جسدها، نظروا إليها بعيون التأويل، وأحاطوها بأذرعة المحبة، وسقوها ماء من نبع حواراتهم، وظللوها تحت شجر كلامهم، لا يريدون شيئا سوى الإمساك بالنبض، حتى تسري الحركة في فضاء المدينة نفسها.
قد تكون عوالم الكتابة احتيالا على الموت، ورغبة في صرف النظر عن أساليبه التي استهلكها الزمن، وتجديدا في الخلق، وإظهارا للمنافسة والتجاوز.
يكتب أحدهم رواية أو شعرا أو يرسم فنان لوحة أو يعمل نحات على منحوتة أو موسيقي على تأليف قطعة موسيقية. ثم يحدث الافتراق بين العمل ومؤلفه، الأول باتجاه أفق تكون فيه الكتابة حفرا على كتابة أخرى، بينما الثاني باتجاه أفق تكون فيه الكتابة محوا لكتابة أخرى. فإذا كان الحفر دلالة على الحياة، فإن المحو دلالة على الموت.
يختفي الجسد الفيزيقي ويظل الجسد الكتابي علامة على حضوره، ويتلقى جسد العالم هذا الحضور باعتباره نقشا لا يكف عن اللمعان والسطوع.
الكتابة عوالمها صامتة، لا تقول، ولا تنطق، فضاؤها مبعثر، لا تحده حدود، ولا يستقر في جهة معينة، كائناتها تتنفس القواميس، ووديانها مرتع للأفكار التائهة، وكهوفها ممتلئة بالكنوز المعرفية التي تنتظر إلهاما يزيح الغبار عن أقفالها.
لا شيء فيها يشبه عالم الإنسان سوى بالدوافع، وهذه بدورها تضع الإنسان في استيهام كامل، بأنه وحده القادر على نفخ الكلام في شفة تلك العوالم الصامتة.
الكائنات الأخرى تكتب تاريخها أيضا. فالجسد منظور إليه في الآثار، يقول ما لم يقله اللسان، ويكتب أكثر مما تكتبه اليد، ويتحلل في التربة وهو قادر على أن يلهم الأحجار، ويجعلها تفكر في نفسها بمنطق الخلود.
الغريب حين يفكر المرء - وبالخصوص المبدع أو المفكر والكاتب - بالكتابة بوصفها مصدرا آخر للوجود، هو غيره حين يفكر بها باعتبارها تعبيرا عن معناه في الحياة، أو رافعة لاستكشاف مكنونات العالم، أو مصباحا يرفعه الشخص أمام آخر مثله، ليعرفه ويتعرف عليه ويحادثه.
بين الاثنين بون شاسع، فالأول لا تحضر الكتابة بوصفها مفعولا للمبدع أو للكاتب، بل بوصفها عالما قائما بذاته، فالنظرة إليها من جهة الإنسان تكون أشمل وأعمق وأقرب إلى أن تكون عالما يتحدى فيه كل شيء في عالم الإنسان، أشبه شيء بالمرايا الصقيلة التي توضع أمام هذين العالمين، ولا يكفان يعكس كل واحد منهما، ما يوجد عنده في مرايا الآخر، وهذا التصور للكتابة نادرا ما تجد له موطئ قدم عند المبدعين أو المفكرين إلا القلة.
بينما التفكير في معناها الآخر هو السائد، ويمكن الحديث عنه بعدد المبدعين أنفسهم، لأن كل تجربة هي تجربة فردية بالدرجة الأولى، وكل إبداع بالتالي مرتبط بإمكانيات هذه التجربة ومحل ظروفها الزمانية والمكانية.
@MohammedAlHerz