والفم الصغير كأنه حبة كرز عنابية شقت نصفين. فإذا ما ابتسمت تخال أن البرد الأبيض المتساقط أيام الشتاء قد حل في فمها منظما.. (تنحنحت أنا فنظر إلي نظرة كادت تخسف بي) ثم أكمل كلامه..
لكنها كانت شرسة الأخلاق، تنظر إلي نظرة غرور، لا تكاد تسمع لي. ولا تطيعني في أمر إلا بعد أن أستنزف صبري كله وأحيانا ألجأ إلى الضرب. أيام قليلة تكون عندي في البيت وأشهر كثيرة هي في بيت أهلها غضبى بسبب وبلا سبب، وهكذا عشت بين حب دفين لها وبين كره لتصرفاتها وغرورها.. كنت أمزق نفسي كي تمنحني نفسها كما هي حياة الأسوياء من الناس. فإذا ما فعلت كنت كالذي يأكل أكل البخلاء اللؤماء وهم ينظرون إليه بحقد.. فأين اللذة؟.
نسيت لذة النظر إلى وجهها وجسمها، وصدني عنه شراسة أخلاقها.. مرت الأيام ثقيلة كالذي يمشي في الطين فيغوص إلى ركبتيه.. رزقنا بالأبناء والبنات وشغلت هي بهم عني. تقدم بنا العمر فخفت حدة أخلاقها، وتنازلت أنا عن أشياء كثيرة.. تقدم بنا العمر أكثر فاعتدنا على بعضنا، وهي تحاول التفنن في أمور العشق وملحقاته، واقتربنا كثيرا من بعضنا.. لكن ذلك الجمال الصارخ الذي كان يملأ وجهها قد ذهب.. وترهل الجسم.. وكثر التأوه منها عند القيام والقعود، أنا بشر، أعشق الجمال، وأسرح بفكري في ماضينا وأقول: كيف لو اجتمعت هذه الأخلاق اللينة اليوم مع جمالها الفتان قبل سنوات؟ لماذا أذهبت بغرورها وغبائها وشراستها أجمل سنوات عمرنا؟ نحن اليوم كالذي يتصابى ويقنع نفسه بأنه في غمرة الشباب لينتقم من ماض لن يعود، إننا نعيش خريف العمر، اغرورقت عيناه بالدموع، وطأطأ رأسه، ولأني أعلم عزة نفسه لم أكلمه، وتركته على حاله، وعلمت أنه لا يريد مني حلا، وإنما يريد أن يفضفض، لعله يرتاح، ألم يقل بشار بن برد:
ولا بد من شكوى إلى ذي مروءة.. يواسيك أو يسليك أو يتوجع
قلت له: أتأذن لي أن أكتب هذا؟ فنظر إلي طويلا ثم تركني ومضى.
مصيبتنا المتأصلة هي فقدان سعادة اللحظة الحاضرة، وتأجيل الاستمتاع بالحياة، فمن لديه المال يؤجل حتى يحصل على السيارة، ثم البيت، وإذا حصل على البيت، تطلع إلى ما بعده. والصغير يتنظر أن يكبر ويلتحق بوظيفة ثم يبدأ في التفكير بالاستمتاع بالحياة، وقد تأتيه أمور لم تكن في حسبانه.. والأزواج يؤجلون ولا يستمتعون، حتى إذا أتى خريف العمر، فحينئذ تعصف بهم الذكريات المنغصة، وتجري على ألسنتهم.. يا ليتني فعلت.. وليتني لم أفعل..
[email protected]