[email protected]
يقول هوميروس: «تلهمنا ملكات الشعر مقدمات قصائدنا، ويبقى علينا كشعراء أن نستلهمها» ولعل هذا الشاعر الإغريقي الشهير أراد بقوله هذا الفصل بين جوهر العمل الإبداعي وبين بدايته، فالشرارة الأولى لأي عمل إبداعي تظل «سرًا عجيبًا» من أسرار المبدعين، واصطياد هذه الشرارة يظل عملًا «عجيبًا» لستُ أفقه تفسيرًا منطقيًا لأسراره، فإذا كانت «البداية» أو الشرارة الأولى تمثل انطلاقة العمل الإبداعي، فإن ممارسة تفاصيلها من قبل المبدعين تُعدّ عملًا «مدهشًا» ويدعو إلى طرح كثير من التساؤلات، فبعض الشعراء وكتاب القصة لا يحلو لهم اقتناص تلك «الشرارة» إلا في معمعة الصخب والضجيج والصراخ، فشاعر النيل حافظ إبراهيم كان يقول قصائده «ارتجالًا» في المقاهي، وقد كتب بيرم التونسي ديوانه كاملًا في أحد مقاهي القاهرة، أما أمير الشعراء أحمد شوقي فإنه «لا يجلس» للشعر، أي أنه لا يتهيأ لكتابة القصيدة، وإنما يصطادها اصطيادًا، وعندما تجيء له بادرة إلهام فإنه يكتب مطالع القصيدة على أية ورقة أمامه، وغالبًا كان يكتب هذه المطالع على «علبة سجائره» أو على «أساور قميصه» إن لم يجد ورقة يكتب عليها.
وقد عهد عن توفيق الحكيم أنه يستلهم أدوار شخصيات رواياته من حواره مع أصدقائه، ومن خلال الحوار يخرج بعدة أفكار متضاربة يختار منها الأفضل لصياغة البداية التي سوف يشرع من خلالها للدخول في تفاصيل عمله، أما نجيب محفوظ فإنه يلتقط أبطال رواياته في كثير من الحالات من «الواقع» أي من الشارع المصري، وهو يعشق الجلوس في المقاهي الشعبية، ويأنس للضجيج المنبعث من الحارات والأزقة القديمة، والعقاد كان يتحدى «التشاؤم» بطريقة لافتة للنظر، وقيل إنه كان يحتفظ بصورة طائر «البومة» في مكتبه، ويُصرّ على «البحلقة» في هذه الصورة عند الشروع في الكتابة محاولًا أن يتحدى بذلك التشاؤم، فالعرب كانت تتشاءم من طائر البومة، ولا أدري ما هي العلاقة بين «بدايات» أعماله الرائعة وبين التشاؤم، ومن الغريب أن تلك البدايات أو «الشرارات» التي تحدد ماهية كتاباته لم يكن يكتبها إلا بِحر «أحمر» عازفًا عن أي لون آخر، وهو سر من الأسرار التي لم يُفشها لأحد طوال حياته.
[email protected]
[email protected]