ناقش الفلاسفة منذ العصور القديمة مشكلة اللذة والتبدد السريع لها، فنحن نتلذذ بالأكل والشراب، وبعد بضع ساعات نجوع ونعطش من جديد، أو يمضي الصديق الذي كان بصحبتنا، تتوقف الموسيقى، ينتهي الفيلم، نفرغ من الرواية، نعود من الإجازة، حيث يرتبط الإحساس باللذة بمثير خارجي لابد من تجدده دوما، وأحيانا يكفي حدوث أمر بسيط للغاية لكي تذهب عنا كل لذة نرجوها، كأن نشرب ماء فاترا، أو نتناول طعاما سيئا، أو يتبدد جمال المنظر بسبب رفقة سيئة، وفي واقع الأمر فمن الصعب للغاية الشعور بالرضا والإشباع بشكل دائم، إن ارتبط ذلك فقط بالسعي وراء اللذة، بالإضافة إلى أن بعض اللذات ترضينا بشكلٍ فوري ولكنها تضرنا على المدى البعيد، فمن دون شك ستكون للأطباق الشهية الغنية بالدهون والسكريات تداعياتها على صحتنا لو تم تناولها بكميات كبيرة، فعلى المدى المتوسط أو الطويل، بل من منظور أكثر شمولا للوجود، يكشف الإشباع الفوري للذات عن تقدير خاطئ للأمور، مما جعل حكماء الشرق والغرب يبحثون لعصور عديدة عن إشباع دائم أكثر شمولا وأكثر ديمومة، يتجاوز الطبيعة الزائلة للذة، فلا يحده الزمن ولا يرتبط بظروف خارجية، فليس ثمة شر في اللذة ذاتها، ولكن الأسباب التي تسهم في تحقيق بعض من هذه اللذة قد تحدث اضطرابات أكثر مما تحقق من المتعة، فالإكثار من اللذة يقتلها، ونحن ننجح في إطالة أمدها حين نحد من الكمية ونهتم بالنوعية، فلا توجد سعادة بدون ملذات، ولكنها ملذات معتدلة ومختارة، ونحتاج للتعامل معها بمفهوم «الأقل هو الأكثر»، أو يمكننا أن نطلق عليها «القناعة السعيدة»، ولأن اللذة عابرة وتابعة لأسباب خارجة عنا، يبرز لدينا سؤال ملح هو: كيف يمكن إدامة السعادة؟، بمعنى آخر كيف يمكن لسعادتي أن تستمر إذًا فقدت عملي، أو هجرني شريكي؟، أو ذبل شبابي؟، وهذا ما حاول الفلاسفة دوما البحث حوله والإجابة عنه، وهو في ضرورة تخليص السعادة من أسبابها الخارجية والعثور على أسباب جديدة تكون في داخلنا هذه المرة، وهذه هي الدرجة الأعلى من السعادة والمسماة «الحكمة»، فأن تكون حكيما يعني قبولك للحياة كما هي، وألا ترغب في تحويل العالم بأي ثمن نحو تلبية رغباتك، وأن تتلذذ بما تملكه، وبما هو موجود بالفعل، من دون أن تهدر ما تملكه في تمني ماهو أكثر، أو البحث عن شيء آخر، وفي قبول ما نعجز عن تغييره، ولن نصل إلى ذلك بضربة من عصا سحرية، لأن الحكمة تظل هدفا يصعب الوصول إليه، وقليل من البشر مَن يحققه بالكامل، ويمكن ترجمتها بتعبير آخر هو «الاستقلالية الشعورية»، أو «الحرية الداخلية»، التي لا تجعل سعادتنا أو شقاءنا يتوقفان على الظروف الخارجية، مما يمنحنا مزيدا من الرضا عن كل ما يجري، وهو تصور بعيد جدا عن التصور السائد، الذي يتباهى باستمرار سعادة وهمية لا تتجاوز الإشباع الفوري لملذاتنا الأكثر أنانية، وهو إشباع قصير الصلاحية، سرعان ما يزول تاركا وراءه المزيد من الفراغ، ودافعا إلى المزيد من الأوهام، وهذا النوع من السعادة هو لحظات خاطفة مختلفة تماما عن التي يتحدث عنها الحكماء، فهي حالة مستمرة تتحقق عبر اكتساب المزيد من الحكمة والتصور الأعمق لمعاني الحياة.
@LamaAlghalayini