في البداية، كانت الفكرة مجنونة وخيالية، إذ كيف يمكن إرسال موجات بدون أسلاك (موجات لاسلكية)؟. لأنه في ذلك الوقت اعتاد الناس على إرسال البرقيات عبر الأسلاك المنتشرة بين المدن. وكما جرت العادة، فإن أي فكرة أو ابتكار أو اختراع أو تقنية جديدة ستجد المعارضة والمثبطين، وفي أقل الأحوال سيقول لك أحدهم: إنها غير عملية أو غير واقعية.
والفكرة بدأت عندما ادعى العالم الإيطالي غوليلمو ماركوني أنه يستطيع أن يرسل ويستقبل الموجات الكهرومغناطيسية بدون أسلاك (وهو المبدأ الأساسي الذي تعمل عليه محطة الإذاعة). وكانت الفكرة في زمنه شبه مستحيلة وضربا من الجنون لدى الكثيرين. ولكن في عام (1901م) استطاع ماركوني استقبال موجات عبر المحيط الأطلسي من بعد (3500) كيلو متر ليكون بذلك من أعظم الإنجازات المذهلة عبر التاريخ، وهو انتصار لعالم (اللاسلكي)، الذي نستخدمه اليوم للأقمار الصناعية والهواتف الذكية وغيرها من المجالات المذهلة. وقد حصل ماركوني على جائزة نوبل عام (1909م) لأنه في ذلك العام استطاعت السفينة (فيكتوريا) إرسال استغاثة لاسلكية طلبا للنجدة من السفن المجاورة، وبالفعل تم إنقاذ عدد من ركابها بفضل هذه التقنية الحديثة في زمنهم.
وبعد هذا الاستعراض السريع تاريخيا، لعلك تتساءل كم من فكرة كانت في رأس أحدنا قيل عنها: إنها مجنونة أو لا تصلح للتطبيق، ثم تتفاجأ بعد فترة أنها موجودة في الأسواق كمنتج تجاري. وقد تلوم نفسك على أنك لم تتخذ الفكرة، التي كانت لديك على محمل الجد، ولم تبذل لها كل الجهد!
وكما أسلفنا، فإن الإذاعة صمدت أمام تطور وسائل الإعلام المتنوعة، وحتى اليوم نحن نستمع لها في سياراتنا وعبر أجهزتنا، بل إن موثوقية أخبارها ومعلوماتها أعلى درجة من بعض وسائل التواصل الاجتماعي غير الرسمية، التي تنقل لنا الخبر بسرعة ولكن بأقل موثوقية ومصداقية. ويدل على ذلك ما ذكرته هيئة الأمم في موقعها الرسمي، حيث قالت: «بناء على أكثر من قرن من تاريخها، تظل الإذاعة واحدة من أكثر الوسائط الموثوقة والأكثر استخداما. على مر السنين، وفرت الإذاعة وصولا سريعا وبأسعار معقولة إلى المعلومات في الوقت الفعلي والتغطية المهنية حول المسائل ذات الاهتمام العام، فضلا عن ضمان التعلم عن بُعد والترفيه».
ولا بد أن نشير إلى أن من أسباب صمود الإذاعة لقرن من الزمن هو سهولة الاستخدام، وانخفاض التكلفة، وإمكانية الوصول إلى شريحة كبيرة من المستمعين، وأيضا يمكن الاستماع لها في كل وقت ومكان، بالإضافة إلى التنوع والشمولية في البرامج. وهذا يدل على أنه كلما كان المنتج سهل الاستعمال زاد انتشاره واستخدامه بين الناس، والعكس صحيح!
ومن المستغرب أن كلمة (مذياع) لم تنتشر بشكل واسع مع أنها سهلة النطق والاستخدام والتصريف. ولكن الناس درجوا على استخدام كلمة (راديو) نطقا وكتابة أكثر من كلمة مذياع.
إن الفكرة المجنونة اليوم قد تكون غدا واقعا مثيرا.
abdullaghannam@