كان والدي أطال الله في عمره من أوائل الطلاب الذين ابتعثتهم المملكة للخارج للدراسة الجامعية، ضمن خططها الطموحة لبناء الإنسان السعودي. وقد انتقل والدي من منطقة عسير حيث كان يقيم مع أسرته إلى مكة المكرمة للالتحاق بثانوية «تحضير البعثات»، التي كانت الوحيدة في المملكه في أواخر الأربعينيات من القرن الميلادي السابق. وكانت ثانوية داخلية تستقبل الطلاب من جميع المناطق بهدف تحضيرهم للبعثات في الجامعات خارج المملكة التي لم يكن بها أي جامعة في ذلك الوقت. وكان السبيل الوحيد للحصول على شهادة جامعية في ذلك الوقت هو الابتعاث إلى جمهورية مصر العربية التي كانت قبلة لكثير من طلاب العلم من كافة الدول العربية التي كان كثير منها يرزح تحت الاستعمار الغربي على خلاف المملكة التي تم توحيدها قبل ذلك بسنوات على يد المغفور له جلالة الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه. وتخرج والدي في جامعة الإسكندرية في النصف الأول من خمسينيات القرن الميلادي الماضي ليعود للوطن ويلتحق بوظيفة حكومية، ليشارك في بناء هذ الوطن ليعين لاحقا مديرا لمجلة الحج والتي عرفت لاحقا بمجلة التضامن الإسلامي والتي كانت تصدر بمكة من وزارة الحج.
وكان والدي ضمن مجموعة صغيرة من أوائل المبتعثين إلى خارج المملكة، وكنت أنا من الجيل اللاحق فقد ابتعثت كطبيب شاب للدراسة والتخصص إلى الولايات المتحدة الأمريكية في أوائل التسعينيات الميلادية، كما كان لبناتي نصيب من بعثات المملكة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وكانوا الجيل الثالث من الأسرة المبتعثين، فقد شملهم برنامج منح الملك عبدالله بن عبدالعزيز رحمه الله، وكانت هذه إحدى مآثره الطيبة التي لا يزال خريجو البعثات الخارجية في المملكة يذكرونها إلى يومنا هذا. وكان نشر العلم والثقافة هدفا لمؤسس هذه الدولة السعودية الإمام محمد بن سعود طيب الله ثراه. وما زالت برامج الابتعاث تجسد رؤية بعيدة النظر وضمن خطط بعيدة المدى، لبناء جيل من شباب وشابات هذه الأمة الذين يحملون على عاتقهم مسؤولية مستقبل الدولة السعودية بتوجيهات القيادة الرشيدة.
ومنذ خمسينيات القرن الماضي استمرت بل وتوسعت برامج الابتعاث من عدة جهات حكومية وخاصة في المملكة في تخصصات كثيرة ومتفرعة. وتوسعت لتشمل دولا عربية أخرى مثل لبنان ثم دولا غربية وشمال أمريكا وحتى شرق آسيا مثل الصين واليابان وكوريا، ونرى المبتعثين العائدين يتحدثون لغات تلك الدول بطلاقة في صورة مشرفة تعكس تعدد ثقافات الطلاب العائدين. وزادت أعداد الطلاب حتى أصبح برنامج الابتعاث في المملكة أكبر برنامج من نوعه بين دول العالم لتعليم الشباب السعودي وتدريبهم، ونقل الخبرات من الغرب والشرق إلى المملكة للاستمرار في البناء والتطوير. ونرى ملحقيات المملكة العربية السعودية الثقافية وقد أصبحت مراكز في كثير من دول العالم لتعريف تلك الدول بحضارة وثقافة المملكة. وأصبح الطلاب المبتعثون سفراء للتعريف بثقافة وتطور المملكة ورأينا كيف توج الكثير من هؤلاء الطلاب بجوائز وشهادات في دراسات متقدمة، تتويجا لإنجازاتهم المشرفة في جامعاتهم، ورأينا كيف حقق العلماء والأطباء السعوديون إنجازات كبيرة في مجالات تخصصهم في برامج التدريب، وعمل البعض منهم كأساتذة في جامعات رائدة من حول العالم وكانوا وما زالوا مفخرة للوطن وواجهة مشرقة تجسد تطبيقا واقعيا للهدف من برامج الابتعاث وبناء الإنسان السعودي الذي أصبح مثلا مشرفا ورائدا في إنجازاته.
ولا ننسى أن نقل التقنيات والتصنيع المتطور والمضي في النقلة الحضارية المتسارعة كان من الأهداف الرئيسية لرؤية المملكة 2030. ونرى في كل يوم هذه الرؤية تتحقق وتشكل مفخرة لكل مواطن، وآن لنا أن نحتفل بها في أول يوم تأسيسي للمملكة، والذي يهدف إلى تعريف شباب هذه الأمة بتاريخهم وحضارتهم وكيف بنى الجيل السابق المؤسس أركان الدولة ببعد نظر، لتصبح ما هي عليه وما نراه اليوم كمثل يحتذى به في الإنجازات ومفخرة لكل فرد في هذا الوطن. حفظ الله شعبنا وقيادتنا وحفظ لنا مسيرة الحضارة في يومنا التأسيسي الأول.
@almaiahmad2