الذاكرة كتاب يكتب ويخط، ترسم صوره وتبنى مشاعره. فلكل إنسان كتاب ولكل مجتمع كتاب ولكل مدينة كتاب ولكل وطن كتاب. ولا يوجد ما هو أقوى وأهم من كتاب الوطن فهو الذي يربط بين مختلف المدن ومجتمعاتها وأفرادها. وليس هناك أجمل من أن ترى الكل مجتمعا يحتفل في يوم واحد يستعرض ذاكرة 300 عام بالبأس.. بالأحداث... باللهجات وغيرها. خط هذا اليوم في كتاب كل مدينة ترابط مجتمعها ورسم صورة بصرية لهوية تاريخية بألوان الحاضر المبهجة. تعرف الذاكرة بأنها عملية عقلية معرفية، تؤثر على السلوك الإنساني مباشرة، وترتبط بالعمليات المعرفية الأخرى كالانتباه والتفكير والتخيل والتصور وتنحت هذه السلوكيات شكل هوية المجتمع. فالهوية كما ذكرها كنعانة في دراسته عن الثقافة والتراث والهوية أنها ليست فقط مجموع الرموز إنما هي حالة الوعي عند أفراد المجتمع بجوهر أو بروح تلك الرموز وتلك العناصر مجتمعة وبناء عليه يجب اختيار الرموز والصور المحملة والمشحونة بالعواطف والمعاني الإيجابية والتي توحي بالكبرياء والاعتزاز بالجماعة وبالأخص الوعي في ثماني نقاط، أولها الوعي بوجود هذا الجوهر أو الروح النابعة من هذه الرموز، ثانيا الوعي بأن الجوهر يميز أفراد تلك الجماعة عن غيرهم، ثالثا الوعي بأن ذلك الجوهر يجمع بين أفراد الجماعة، رابعا الوعي بالشعور المتبادل بين أفراد الجماعة بما يمتلكون من جوهر مشترك، خامسا الوعي بإدراك الآخرين بكنه ما يميز تلك الجماعة، سادسا الوعي باستمرارية ذلك الجوهر بالمكان والزمان ومن الماضي إلى الحاضر ثم إلى المستقبل، سابعا التماهي مع توقعات وتطلعات وطموحات الجماعة إلى المستقبل، وثامنا الشعور بالاعتزاز برموز وجوهر تلك الهوية والشعور بالانتماء إلى ذلك الجوهر. وعليه لكل مجتمع حرية اختيار ما يبرز ويقوي ويدعم هويته، يكتب في كتاب ذاكرته كل جميل. ففي بونارغا في كوينزلاند في أستراليا تم اختيار عدد من المباني الحديثة لقوة تأثيرها في بناء هوية المجتمع وذاكرته والحاجة لتخليدها لجيل الحاضر ولأجيال المستقبل كقاعة ستوكمانز في أستراليا، أو تباك، في لونغريش الذي يمثل الذكرى المئوية الأسترالية الذي افتتحته الملكة إليزابيث الثانية عام 1988م، حيث اعتبر رمزا اجتماعيا ووطنيا ورمزا للتاريخ الأسترالي والروح والتراث. واختيرت أيضا مبان حديثة لأسباب أخرى كاختيار قاعة كاكتوبلاستيس التذكارية (1935-1936) في بونارغا في كوينزلاند في أستراليا وهي قاعة ريفية بسيطة مبنية من خشب ليست «استثنائية» ولا «مميزة» ولكن للمكان قيمة تذكارية علمية معينة متعلقة بالتاريخ الاقتصادي في ولاية كوينزلاند حيث مثل السيطرة الناجحة على صبار الكمثرى الشائك من خلال إدخال كاكتوبلاستيس العثة في أواخر 1920 وأوائل 1930، وتعد بونارغا في منطقة تشينشيلا واحدة من عدة مناطق التي شهدت رخاء متجددا وأعادت استخدام الأراضي التي تم تطهيرها من الكمثرى الشائك في الزراعة والألبان. وما كان اختيار هذه المباني إلا تبعا لمعايير تقييمية تعتمد في نظامها على ما هو مهم للمجتمع سواء كانت أهمية جمالية أو علمية أو تاريخية أو بحثية. هذا هو بناء الهوية المجتمعية والذاكرة الجمعية لأجيال الحاضر والمستقبل التي يشترك فيها المجتمع وقادته، هي رموز الفخر والترابط المجتمعي ورمز الهوية الوطنية التي تسجل في كتاب الذاكرة الجمعية للوطن... رموز يستعرضها يوم بثلاثمائة عام.
إنستجرام: Dr_fatima_Alreda