هذا المنزع هو السمة التي حكمت تطور الشعر عند الشعراء بصفة عامة في جميع مراحل نموه عبر التاريخ، وأعطته صفة الحركة والديمومة.
لكن بعض الخصوصية التي تكمن في قصيدة النثر ليس في مفهوم التجريب الذي تحول إلى فخ أيديولوجي يغذي الالتباس بين شكل القصيدة التي نكتبها من جهة، وبين موقفنا ورؤيتنا وطريقة اقترابنا من الحياة والعالم من جهة أخرى.
وليس كذلك ممارسة التجريب التي اقتصرت على الأرجح عندنا على مقاربة الشكل الشعري فقط باعتباره يمثل الحداثة الشعرية أو الكتابة الجديدة، بينما في العمق من نظرتنا للحياة لم تزل القيم والعواطف والانفعالات هي هي ذاتها التي أسرت وعي القصيدة التقليدية، فالتنقل من شكل شعري إلى آخر لا يعني بالضرورة التجديد.
إن ما أقصده من التجريب هو ذاك الذي لازم قصيدة النثر في الشعر الأوروبي ولم تنقطع صلته عن الحياة بأي حال من الأحوال.
يقول أكتافيو باث «لقد شهدنا في القرنين التاسع عشر والعشرين بزوغ قصيدة النثر والتجديد الدوري للغة الشعرية بحقنات قوية متزايدة من الكلام الشعبي.
لكن ما كان جديدا لم يكن يعني أن الشعراء يتأملون الشعر بالنثر، بل أن هذا التأمل طاف عن حدود الشعرية القديمة، معلنا أن الشعر الجديد كان أيضا طريقة جديدة في الشعور والحياة».
ولكن خلف هذه الحقنات القوية كانت تكمن فكرة متحفزة مفادها أن النثر قابل للشعر. ومنذ أواخر القرن السابع عشر عندما أصدر فينلون روايته «مغامرات تليماك» اعتبرها النقاد في حينه نوعا من الشعر، واندفعوا بحثا عن «النثر الأعلى» وأصبح هذا البحث أشبه ما يكون بـ «خميرة ثورية» على حد تعبير سوزان بيرنار، وطالب فينلون بالفصل بين الشعر وفن نظم الشعر «نظمنا للشعر المقفى يخسر أكثر مما يربح» وكما صرخ كذلك هودار دي لا موت: «النظم مضايقة فلنكتب بالنثر.. فلنقدم للناس قصيدا غير موزون».
وكانت الترجمة للآداب الأجنبية رسخت في ذهن القارئ (الفرنسي أوائل القرن الثامن عشر) أن بالإمكان تذوق الشعر دون الحاجة للجوء إلى النظم أو القافية.
هذه العوامل جميعها كانت تمثل شروطا تاريخية من خلالها استطاعت القصيدة النثرية أن تستوعب تحولات المدينة الحديثة.
ألم يحول بودلير الأسلوب الوصفي لليالي الغوطية المرعبة في ديوان «غسبار الليل» لألويزيوس برتران الذي تأثر به كثيرا إلى أسلوب نثري في وصف ليالي باريس الحديثة في عمله الموسوم «سوداوية باريس»؟!
ألم يكن الشاعر ولت ويتمان يرقب عن كثب تفتحات الحياة الحديثة على الأرض الموعودة «أمريكا» ثم يعبر عنها في ديوانه «أوراق العشب»؟!
ألم يأخذ رامبو الشعر إلى تخوم الصمت حينما أحس أنه فقد فاعليته إزاء الحياة ولم يعد ثمة أسلوب وكأن بول فاليري عناه تماما عندما قال «الشكل يكلف غاليا».
هذه مجرد نماذج تبين إلى أي حد يمكن أن نذهب إلى القول من خلالها أن السمات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والأدبية هي التي أوجدت نوعا من المفارقة المرعبة في الواقع الحياتي للمدن الحديثة، ولم يكن سوى الشعراء والفنانين الذين عبروا عنها أفضل تعبير تحت وطأة فلاسفة كبار مثل نيتشة وشليغل وشوبنهاور وميرلوبونتي.
هذا هو المختبر الكيماوي (عكس المختبر الكيماوي العربي) الذي يعكس الطبيعة النثرية للحياة المعاصرة. ولكن أليست هذه المفارقة المرعبة أوجدت من جهة أخرى تقارب وحدة المنظور بين الفنون؟ للإجابة عن هذا التساؤل في مقال آخر.
@MohammedAlHerz