في بداية تسعينيات القرن الماضي، شرع المفكرون الغربيون وفي مقدمتهم المؤرخ صموئيل هنتنغتون بالتنبؤ عن طبيعة الصراع المستقبلي لتلك الحقبة، وأنه سيكون صراعا يتخذ ثنائية (الثقافة / الدين)، وبالتالي ستذوب الثقافات الأقلية ضمن الثقافات الكبرى لتصفى في النهاية على ثلاث ثقافات وديانات كبرى، هي الغرب المسيحي والصين البوذية والعالم الإسلامي، وقد ازدادت أهمية تلك التنبؤات المستقبلية بعد نجاح الصينيين الأخير وتقدمهم على أوروبا، ومحاولاتهم اليوم الجادة بانتزاع صدارة النظام الدولي من الغرب، أو على الأقل فرض عالم جديد يرتكز على تعدد القطبية.
عنوان المرحلة الحالية وربما المستقبلية أيضا يتخذ نمطية الصراعات الجيوسياسية أو الصراع على الجغرافيا الإستراتيجية، ولعل قضية أوكرانيا الحالية هي توصيف حقيقي لهذه المرحلة، وهذا ما دعا بعض المحللين بوصف أوكرانيا أنها لعنة الجغرافيا، فهي ثاني أكبر دولة في أوروبا بعد روسيا وتتمتع بموقع إستراتيجي حيوي، بيد أن ظروف الصراعات الدولية لم تمكن أوكرانيا من خلق قيمة فعلية مستدامة لجغرافيتها، مما جعلها عرضة للاحتلال الخارجي عبر تاريخها القديم والحديث سواء من الإمبراطورية النمساوية أو العثمانية أو الاتحاد السوفيتي وصولا إلى طموحات روسيا اليوم، فقد تكون الجغرافيا قدرا لا يمكن الإفلات منه، وهذا قدر أوكرانيا.
وفي الختام، عناوين صراعات المراحل التاريخية لا يعني تفرد ذلك العامل أو غيره في تفسير تلك المرحلة الصراعية، ولا يعني أيضا غياب وأهمية العوامل الأخرى، وإنما هي مجموعة عوامل تظل متداخلة وحاضرة ولكن تحت قانون النسبة والتناسب، بينما يظل عامل واحد يفرض حضوره كعنوان لتلك المرحلة، وعنوان المرحلة الحالية هو الصراع على الجغرافيا الإستراتيجية.
@albakry1814