علاقة الواقع بالإبداع هي علاقة جذرية، ذلك أن المبدع لا يمكن أن يعطي شيئًا خارج إطاره الواقعي، وبالتالي فإن الكاتب المبدع يُعد انعكاسًا طبيعيًا لواقعه، بما يحمله هذا الواقع من طموحات وتطلعات وهموم، وبصيغة أخرى أستطيع القول إن إرهاصات الكاتب المبدع هي إيقاع طبيعي لحياته الاجتماعية التي يعيشها مع الآخرين، وهي إفراز طبيعي لما يكتنف هذه الحياة من أزمات، ومَن يكتب بعيدًا عن هذا الإيقاع أو الإفراز فهو يعيش في أتون «نرجسية» بعيدة عن الواقع، وبالتالي بعيدة عن الإبداع، ولعل البعد عن الواقع أثناء الكتابة الإبداعية يجر إلى الحديث عن معاناة الإنسان المبدع من مرض أو فقر، أو خلاف ذلك، فهل هذه المعاناة تخلق من الأديب مبدعًا؟ أو بعبارة أخرى تؤدي إلى توافر الإبداع في أدبه؟
أنا لا أرى أن هذه النتيجة صحيحة في كثير من حالاتها، وأحسب أن الإبداع في حد ذاته لا علاقة له بمعاناة الإنسان من أزماته الاجتماعية أو المرضية أو المالية او نحو ذلك، ويمكن القول بعبارة أكثر دقة، أو أكثر صحة إن المعاناة قد تؤدي إلى تعميق شعور الأديب بالتجربة، ولكنها لا تصنع منه مبدعًا.
فالقول إن الفقر قد يدفع الأديب إلى مرحلةٍ من مراحل الإبداع، أو القول إن الغِنى قد يدفع إلى ذلك، أو أن الشعور بنقص أو مرض قد يدفع الأديب إلى الأخذ بأسباب الإبداع هو قول أشك في صحته وعافيته، ولكن ربما تتبلور معاناة الشاعر أو الأديب الفقير بشكل مؤثر لرغبته في الانتصار على هذه المعاناة، والأمثلة كثيرة على ذلك في حياة أدبائنا الأقدمين والمحدثين، فجُلهم جاؤوا إلى هذه الدنيا وهم لا يملكون شيئًا، فالشاعر الكبير إيليا أبو ماضي كان معدمًا في مهجره، وقد لاحقه الفقر إلى أيام متأخرة من عمره، وقد عُهِد عنه أنه كان يبيع الصحف والمجلات في الشوارع، والشاعر التونسي الكبير أبو القاسم الشابي أنهكه المرض طوال حياته، وقد أبدع أبو ماضي كما أبدع الشابي.. فهل نستطيع القول وفق هاتين الحالتين إن الفقر والمرض قد يدفعان إلى الإبداع، أو أنهما سببان رئيسيان من أسبابه؟ لا أظن ذلك.
[email protected]