وبهذا الطرح يضع سموه أمام السعوديين منصة للحوار ينطلقون منها في آفاق لا حدود لها من الحرية والشمولية في تناول تلك القضايا، لأنه يدرك من حسه التنويري أن صناعة هوية وطنية وفق بناء مستقبلي، لا تنهض إلا من خلال اشتراك السعوديين بكل طوائفهم وقبائلهم ومناطقهم في تواصل معرفي واجتماعي وثقافي واقتصادي وسياحي، عبر كل ما تتيحه الدولة من وسائل وإمكانات ومنصات ومنابر، لأجل الوصول إلى تشكيل خطاب يكون معبرا عند أبنائه عن الهوية الوطنية السعودية بامتياز.
ولا يمكن في إطار الهوية الوطنية تجاوز أبرز مكوناتها ألا وهو التنوع المذهبي والقبائلي باعتبارهما يمثلان ركيزتين في الثقافة السعودية، وكما قال سموه بالنسبة للركيزة الأولى «السعودية لديها المذهبان السني والشيعي وفي المذهب السني توجد أربعة مذاهب، ولدى الشيعة مذاهب مختلفة كذلك، ويتم تمثيلها في عدد من الهيئات الشرعية، ولا يمكن لشخص الترويج لأحد هذه المذاهب ليجعلها الطريقة الوحيدة لرؤية الدين في السعودية».
وكما قال سموه بالنسبة للركيزة الثانية «السعودية دولة ملكية أقيمت وتأسست على هذا النموذج، ولقد أخبرتكم أنه تحت هذه الملكية نظام معقد يتكون من أنظمة قبلية من شيوخ قبائل ورؤساء مراكز وهجر».
إن المذهب والقبيلة ثقافتان فرعيتان ورافدان كبيران، يمدان الهوية الوطنية بكل القيم، التي تتطلبها دولة حديثة قوية من جهة، وبكل السبل والطرق التي تقود المواطن السعودي في أن يرى في هاتين الثقافتين رافعة حقيقية للتطلع إلى المستقبل من جهة أخرى.
وقد حدثت فعلا تحولات على مستوى دمج هاتين الثقافتين في بناء شخصية الإنسان السعودي، ضمن رؤية سمو ولي العهد في مشروعه التنويري، فالتطرف والتعصب المذهبي على سبيل المثال، الذي شكل أزمة وشرخا اجتماعيا في الثمانينيات والتسعينيات ومطالع الألفية الثالثة قاد إلى صراعات أبطأت مسيرة تنمية الفرد السعودي على مستوى المعرفة والاقتصاد والانفتاح على العالم، بل رأينا كيف أصبحت فكرة التحريض الطائفي فكرة ممنهجة، لا تتم معالجتها أو حتى تناولها بشكل نقدي في الصحف؟! وأتذكر في هذا الإطار في فترة التسعينيات كانت بعض الصحف تحجب المقالات، التي ترد فيها كلمة (سني أو شيعي) خوفا من تداعياتها على السلم الاجتماعي.
بينما الآن نرى كيف شخّص سمو ولي العهد الداء والدواء؟ فلا يمكن لأحد أن يحتكر الدين في السعودية وحده، والأسباب التي أدت إلى الاحتكار ثم التطرف هي في تبني هؤلاء المتطرفين الأحاديث الضعيفة الواردة عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) وتأويلها حسب أهوائهم، والمطلوب هو العمل على مشروع تنويري تتبلور في داخله الأحاديث المنسوبة إلى النبي بعد الفرز والتمحيص، التي تفضي بالنهاية إلى الإسلام الحقيقي.
أما القبيلة بوصفها ثقافة وإنسانا وتاريخا وتراثا، فقد دخلت في مشروع الرؤية وأصبحت محورا مركزيا، الهدف منه إبراز عادات وتقاليد ضاربة جذورها في تاريخ أرض الجزيرة كفكرة إحياء الآثار وربطها بالسياحة، وإظهار التراث من خلال الأزياء والأكل والفنون وتقاليدها بين القبائل.
كل هذه المشاريع الفرعية، المتولدة من الرؤية يقع ضمن مهام وزارة الثقافة باعتبارها عرابة الثقافة في السعودية الجديدة. لذلك بوصلة التحول جاءت تلبي حاجة المجتمع السعودي للدخول إلى التأثير في العالم، ناقشنا منها الجانب الثقافي للهوية الوطنية المرتبط بثقافة المذهب والقبيلة، بينما هناك أيضا جوانب أخرى متصلة بهذه الثقافة من العمق كالبعد الاقتصادي والأمني والقضائي والعمراني. وهي متزامنة وتسير بإيقاع متوازن للوصول إلى 2030 بنجاح تام.