دار حوار بيني وبينه في وقتٍ مضى؛ ما زلت أتذكره كلما دخلتُ مسجداً؛ قال بهدوئه المعتاد: هل تعلم أني منذ أكثر من ثلاثين سنة إذا دخلت المسجد لا أنشغل بشيء مما يشغل أكثر الناس، فليس لي علاقة بلون الفرش في المسجد، ولا بجو المسجد، هل هو باردٌ أم حار، وهل جهاز التكييف أبرد من اللازم أم أحرُّ، وهل صوت الإمام حلو كما يقال أم لا؟ وهل يطيل الصلاة أم يقصرها، ليس لي علاقة بهذا كله، أنا مهمتي أن أصلي لربي، وأمكث في مصلاي أذكر الله حتى أنتهي ثم أخرج. وهذا هو طبعي منذ أن تعلقت بالمساجد.
قلت: لم أسمع بمثل هذا الرقي من قبل، وهنيئاً لك على سمو نفسك، وصفاء روحك. هل تعلم أن بعض الأئمة يشتكي كثيراً من بعض الأشخاص المتطوعين لبث الزعزعة في المسجد، فلا يقرُّ لهم قرارٌ إلا بعد أن يكون لهم في كل شيء في المسجد رأيٌّ، خطأً كان أم صواباً. ولا أظنهم يجرؤون على هذا التصرف في بيوتهم. أذكر مرة قبل سنوات مضت، تحدثت في خطبة الجمعة عن شيء من أخلاق النبي وحسن تعامله مع الخلق، وكانت خطبة مؤثرة في نفسي، ورأيت أثرها في دموع بعض المصلين، فلما نزلتُ من المنبر، وقُضيت الصلاة، جاءني رجلٌ لا أنسى طول لحيته المميز، وأخذ بيدي، وكان أطول مني، وذهب بي إلى ركن المحراب حتى خُيّل إليَّ أنه سيخبرني بأمرٍ عظيم لم يخطر على بال أحد، وهيأتُ نفسي لسماعه، فإذا به يقول: «جزاك الله خيراً على الخطبة، لكن خذ مني نصيحة محب.. ترى «بشتك» طويل الله يبارك فيك ولازم تقصره؛ لأنك قدوة».. لم أعد أسمع بقية كلامه لأني دخلت في مشاعر مختلطة.
وهل تعلم أن بعض المصلين آتاه الله حاسةً أظنها زيادة على الحواس الخمس، في مراقبة أنفاس الأئمة، فهذا إمامٌ يقول: جاءني أحدُ المصلين بعد الصلاة وقال لي: أنت ستسافر اليوم إلى خارج المملكة؟! فتعجبتُ لأنه لا يعلم بأمر سفري إلا أهلي!. قلت له: وما يدريك؟ قال: هذه الساعة التي في يدك لا تلبسها إلا إذا أردت السفر إلى خارج البلاد! فأوشكتُ أن يُغمى علي. ما هذه الدقة في مراقبة الخلق؟
ما قصدتُ أن أستقصي كل ما يعانيه أئمة المساجد الكرام، لكن رقيك الكريم أثارني. وبما أن هذا محور حديثنا فلا بأس أن أخبرك بما وقع لي البارحة في صلاة التراويح وقد لا يكون له تعلق كبير بما مضى، وإنما من باب الدعابة: لاحظتُ بعد عودة التقارب بين المصلين أن كثيراً منهم يتوجس خيفة من أن يحاذي من بجواره، قاتل الله (كورونا) التي فرقت بين العباد!. وكان بجواري شخص كبير في السنّ، أحضر معه سجادته ليصلي عليها، وفي هذه الحالة لا يمكنك أن تحاذيه تماماً إلاّ إن وطئتَ سجادته، ولا بد أن يكون هناك فراغٌ بينكما، وهذا يسبب لي حرجاً. المهم أنه في إحدى الركعات زحف إلى جهة اليمين وأشار إليّ أن أقترب، فاقتربت وأصبحت أصلي على نصف سجادته، ولم تنتهِ التراويح إلاّ وأنا أصلي على كامل سجادته، وهو بعيدٌ عنها، فقلت في نفسي: هذه مشكلة أسأل الله أن ينجيني منها. فلما سلم الإمام، اكتفى صاحبي هذا بتوجيه نظرةٍ حادةٍ إلي، وسحب سجادته من تحتي بقوة، وانصرف وهو يتمتم، وأرجو ألا تكون تلك التمتمة دعاءً عليَّ في ليالي رمضان!
[email protected]