غير أن الواقع المطبق حاليا في معظم الجامعات يتغاضى عن هذه الحقيقة التاريخية. فلكي يكون عضو هيئة التدريس باحثا معترفا بأبحاثه، ولكي يترقى في مسيرته العلمية لابد له من النشر في مجلات علمية معظمها أن لم يكن جميعها بلا استثناء بلغات غير العربية.
عرف التاريخ ظاهرة ازدواجية اللغة قديما وحديثا، حيث تعتمد مؤسسات الدولة اللغة المتقدمة، فاعتمد الرومان لغة أسلافهم الإغريق، تماما كما اعتمدت معظم الشعوب، التي انضوت تحت لواء الحكم الإسلامي اللغة العربية كلغة الإدارة في الدولة، وهو ما ارتقى بالعربية لأن تصبح النموذج الأرقى للغة الصفوة، وإلى عهد ليس بالبعيد، كان الخط العربي مفخرة وحلة الدواوين العثمانية، وها هو العالم اليوم يعيش العصر الذهبي للإنجليزية.
صحيح أن هدف هذه الإجراءات الرقي بالبحث العلمي، وتشجيع الأكاديميين على الانفتاح على مجالات أوسع من مختلف اللغات، غير أن غلق الباب أمام البحوث بالعربية يتغاضى عن النتائج المترتبة على مثل هذه الإجراءات. وإذا كان ذلك مبررا بحجة أن علوم التقنية والهندسة والاتصالات والطب غربية المنشأ، فماذا عن علوم اللغة ذاتها؟ وماذا عن كليات الآداب، والفنون، وعلوم الاجتماع، وكل الحمولة الثقافية للغة الضاد، التي تعتبر العربية مادتها المعنية بالبحث وبأدوات البحث والتفكير أيضا؟ أين هي من كل هذا، وكيف يمكن لهذه الكوادر الأكاديمية المدربة وهم يعدون بالآلاف من نشر نتاجهم البحثي والترقي في مسيرتهم العلمية؟.
إن الاكتفاء بقوائم النشر تلك المتغيرة باستمرار فقط لمجرد رفع التصنيف الأكاديمي للمؤسسة التعليمية يضر على المدى البعيد برسالة البحث العلمي وتوجهاته، ومخرجاته، ومردوده على المجتمع. إننا ونحن نعيش في خضم التحول الوطني ورؤية 2030 لمطالبين بأن ترتقي رؤى ورسالة وغايات البحث إلى طموحات هذه الرؤية المفصلية في تاريخ الوطن والمواطن. هناك بون شاسع بين أن يكون البحث العلمي يدور في فلك مؤسسات علمية ضيقة، وبين الحاجات الضرورية الملحة للمجتمع، فالهم مختلف، والهدف مختلف، ومتطلبات البحث والتنمية مختلفة، وطرق التفكير مختلفة، مما سينتج عنه حتما نتائج لا تتطابق مع متطلبات البحث العلمي لدينا.
إن الارتقاء بالبحث العلمي يقتضي إحلال اللغة الأم في مركز العملية التعليمية. هذا لا يعني إهمال اللغات الأخرى. على العكس تماما، فبقدر ما نحن مطالبون بالانفتاح على جميع الشعوب والتزود بما لديهم من خبرات وتجارب رائدة تماما كما فعل المأمون، بقدر ما نحن بحاجة لتعلم لغة الغير، ويأتي إدراج الصينية كلغة ثانية في بعض المناهج أبلغ دليل على هذا التوجه الفكري، حري بمؤسساتنا أن تبني عليه.
البحث العلمي بحاجة إلى إستراتيجيات بعيدة المدى، ونظرات طموحة في شتى المجالات. هناك مساهمات بحثية مفخرة لمؤسساتها ولأصحابها، سواء في الجامعات أو في عدد من المؤسسات البحثية كمدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية. غير أن حاجة التنمية والمجتمع لا تقتصر على التقنية فقط، فنحن بحاجة ماسة للارتقاء بالبحوث في كل المجالات.
[email protected]