ونحمد الله الذي جعلنا نصومه إيمانا واحتسابا ومع ما ذكرناه من حسن الصلة بين الخالق والمخلوق إلا أنها تزيد الصلة الإيمانية مع الشدائد والكرب والحزن في فقدان حبيب أو قريب أو صديق أو عالم أو معلم أو ناصح أو ناهٍ أو بيت سكنته تسعة أشهر ضمك في حيطانه وحنايه الرقيقة تمتص من طعامه وشرابه وتستفيد منه قبل أن يستفيد، ثم حولين كاملين يضمك في حضنه وتحس بالدفء والبرودة ويلمك في يديه ويقبلك بين عينيك أو في شفتيك أو في صدرك أو في أطرافك، المهم هي قبلة حب وحنان وعاطفة صادقة لا تشوبها شائبة يسوقها القدر من خفقان القلب والمقلتين لا تغض طرفها عنك، فما بالك أن تكون كل هذه الصفات الجميلة الحميدة في شخص واحد عظم الله قدره قبل أن نعظمه وجعل له سورة كاملة في القرآن وذكره في معظم السور الأخرى، ونصت علي بره الحديث النبوي قال -صلى الله عليه وسلم-: (أمك ثم أمك ثم أمك ثم أباك) وأنا أشهد أنه يستحق ويستاهل كل الصفات المذكورة، بل وكأنه المجمع التعليمي من الابتدائية إلى الكلية وكأنه الطبيب أو الممرض، الذي يفحص حرارتك في أنفه وأطراف أنامله ثم يحضر لك الدواء كالزنجبيل أو ليمون أو الحبة السوداء أو الصبرة والمرة، وإلى يومنا هذا المعلم هو المعلم وأن تطورت إحداثياته الطبية والتعليمية، لقد تشرفت بخدمة هذا المعلم الطبيب وإن كانت لا تذكر وكنت أنا الطفل الذي ألهمني الله حبها من السنة 3 من عمري وكنت أخدمها أحضر لها مواعين الطهي كالطاسة والقدح وأوقد الحطب في النار وأهش على الغنم وأنوخ لها الناقة والبعير والخدمات كثيرة وإن كانت بسيطة مما جعلها تعتمد علي في بعض الشيء وتوجه لي النصائح، اذهب إلى الصلاة مع الرجال، لا تؤذي ابن الجيران، لا تخالف على بنات الجيران، لا تكذب، لا تظلم، انتبه لا يأكل أغنامنا الذئب. وكانت تطعمنا الطعام قبل أن تطعمه، ولم تكن لدينا مناديل أو مناشف ولكن تمسح أيدينا بردن معصمها ثم تغسل معصمها خوفا علينا من برودة الماء آه ثم آه ثم آه ماذا تعيد لي الذكريات يا أماه الفطرة النقية والجبين الطاهر والقلب الحنون والتربية السليمة نحو 70 عاما ولله الحمد لم تبخل علينا بالنصح والإرشاد لقد تذكرت كرم والدي وكرمك وعزانا بكما أنكما انتقلتما من شقاء الدنيا وهمومها إلي رحاب أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
ولولا حكمة الله وشرعه والله ما دسيتك أماه في التراب ولكن الله له ما أخذ وله ما أبقى والله يلهمنا الصبر والسلوان في فقدانك يا أماه.