والصوت حاضر بقوة في القرآن الكريم في شتى المواضع والسور. ففي سورة لقمان أمر صريح بخفض الصوت في قوله تعالى (واغضض من صوتك) وفي موضع آخر في سياق مختلف تماما في سورة طه: (وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا) ﴿١٠٨ طه﴾. ودائما ما يقترن السمع بالبصر وهو يسبقه في معظم الآيات. قال تعالى: (قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون) ﴿الملك 23﴾. في المقابل فإن الصوت الشديد جدا فوق تحمل البشر (الصيحة) قد يكون عقابا، كما ورد في مواضع كثيرة من القرآن الكريم.
في ليالي رمضان قبل تفعيل القرار، وعلى مدى عقود كان الناس يعيشون حالة صوتية انقلب معها الصوت من معانيه ومقاصده المشار اليها آنفا إلى النقيض تماما. فقد كانت أصوات مكبرات الصوت تجوب الآفاق من كل حدب وصوب. لقد فقد الصوت معناه ووظيفته والغرض منه. ونظرا لكثرة المساجد ولله الحمد في هذه الأرض المقدسة ولقربها من بعض، فإن علو أصوات المكبرات يوحي وكأن هناك تنافسا فيما بينها في رفع الصوت، مما يؤدي في النهاية إلى أجواء بعيدة كل البعد عن روحانية الشعيرة والغرض من أدائها.
من الناحية العلمية، وكما هو الحال في أي ظاهرة فيزيائية مثل درجات الحرارة، فإن الأذن البشرية لها مستوى معين من تحمل الصوت إذا زاد عن درجة معينة من قياس رفع الصوت (ما يسميه علم الصوت الديسيبل) تحول إلى عامل إزعاج (discomfort) خارج نطاق التحمل، تماما كما هو الحال مع مكيف الهواء، إذا زاد أو نقص عن حده الأمثل. وهنا يتحول رفع الصوت إلى مستويات فوق ما تتحمله الأذن البشرية عامل عدم راحة.
الصوت هو العامل الأهم عند أداء الصلاة الجهرية منها خصوصا. هنا يتخذ الصوت بعدا آخر كما ورد في الآيات الكريمة أعلاه. فللصوت الهادئ العذب مفعول سحري في توصيل ما يراد قوله، فالنفس البشرية جبلت على حب الهدوء عند استقبال الصوت. لقد كان الصوت الهادئ مصاحبا لسيدنا جبريل عند نزول الوحي، كما كان صلى الله عليه وسلم مثالا يحتذى في خفض الصوت في مجال الدعوة والنصح والإرشاد.
خارج بيوت العبادة ذهب الزمن الذي كان فيه الصوت عنصر تشويش أكثر منه وسيلة للعبادة. أما في داخلها فالأمر مازال منوطا بكل مسجد والقائمين عليه على حدة. وبالرغم من الامتثال لهذا القرار، إلا أنه مازال هناك حاجة لضبط مستوى الصوت داخل المساجد.
المسجد بيت عبادة. إنه مكان خلوة بين الفرد وربه بمعزل عن كل ما يمكن أن يشغله عن العبادة. هنا يصبح الصوت معيار درجة الراحة بين مسجد وآخر. إن ضبط مستويات الصوت ضمن المستوى العلمي الأمثل للإنسان كفيل بتوفير أجواء من الخشوع والطمأنينة والروحانية في المساجد، التي هي في أمس الحاجة إليها.
والحديث عن صوتيات المساجد يقودنا بالضرورة للحديث عن عمارتها. ذلك موضوع المقال القادم.
[email protected]